ما أن كشفت صحيفة “الشروق” عن قنبلة اعتذار مبارك ، إلا وظهرت عاصفة من التساؤلات حول مغزى هذا التحرك وهل هو محاولة جديدة لإحداث انقسام في الشارع المصري في إطار ما بات يعرف بالثورة المضادة أم أنه خطوة على طريق الإسراع باستعادة الأموال المنهوبة ؟.
وكانت صحيفة “الشروق” كشفت في 17 مايو نقلا عن مصادر مصرية وعربية رسمية أن الرئيس السابق حسني مبارك يعد خطابا سيبث صوتيا عبر عدة قنوات فضائية يقدم فيه اعتذارا عن نفسه وعن أسرته عما يكون قد بدر منه من إساءة لأبناء الوطن.
وأضافت الصحيفة أن حسني مبارك مستعد للتنازل عن ممتلكاته لكي يتسنى له التقدم بالتماس للمجلس الأعلى للقوات المسلحة للعفو عنه وعن زوجته .
ولم تكد تمر ساعات على ما ذكرته “الشروق” إلا وأعلن الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى في برنامجه “في الميدان” الذي تبثه فضائية “التحرير” أن مصادر قريبة الصلة من الرئيس السابق نفت نيته إعداد خطاب يعتذر فيه للشعب المصرى عما بدر منه من إساءة لأبناء الوطن والتنازل عن ممتلكاته وممتلكات عائلته لصالح الدولة.
وأضافت المصادر السابقة أن هذا الأمر لم يتم تداوله على الإطلاق في محيط أسرة مبارك وأن ما ذكرته “الشروق” ينافى تماماً المناقشات التي تجرى بين الأسرة ومحاميها والمقربين منها ، موضحة أن هذا الكلام ينطوي على خطورة حقيقية على موقف مبارك وزوجته سوزان وابنيه جمال وعلاء والأسرة بالكامل لأن محاولة ترديد تفكير الأسرة فى الاعتذار أو الاعتراف بالخطأ وطلب العفو من الشعب المصرى يعنى أن مبارك اقترف جرائم وارتكب أخطاء تستوجب العقاب القانوني وهو ما يضر بموقفه فى القضايا التي يواجه فيها اتهامات.
ورغم التضارب السابق حول “قنبلة” الاعتذار ، إلا أن هناك من اعتقد بصحتها وأشار إلى أنها تجري بسرية تامة لحين الإعلان عنها صراحة على الملأ خاصة وأن الكشف عنها تزامن مع قرار جهاز الكسب غير المشروع بالإفراج عن سوزان مبارك بعد تنازلها عن أرصدة بنكية بمبلغ 24 مليون جنيه وذلك بعد أن تم احتجازها 15 يوما على ذمة التحقيق في قضايا تضخم الثروة.
وجاء في بيان للجهاز التابع لوزارة العدل المصرية أن سوزان مبارك تنازلت للدولة عن أرصدتها في مصر في الأهلي والأهلي سوسييته جنرال التي تبلغ قيمتها 24 مليون جنيه مصري “4 ملايين دولار”، كما وافقت على الكشف عن سرية حساباتها في الداخل والخارج.
ومع أن بيانا صادرا عن النائب العام المستشار عبد المجيد محمود أوضح أنه سيتم إخضاع سوزان مبارك لأية تحقيقات أخرى إذا ثبت تورطها في أي أعمال مثل استغلال المال العام ، إلا أن الشكوك تزايدت أكثر وأكثر بين المصريين بشأن طريقة التعامل مع سوزان وزوجها ، بل وسارع البعض للتأكيد أن قواعد العفو المعمول والمعترف بها على نطاق واسع بعد الثورات والانتقال إلى الديمقراطية تكون في أغلبها العفو عن العقوبة ، الأمر الذي يقتضي مثول المتهمين للمحاكمة أولا.
ولم يقف الأمر عند ما سبق ، فقد حذر نشطاء سياسيون مصريون أيضا من أن العفو عن مبارك وزوجته سوف يشعل الثورة من جديد في ربوع مصر كلها وسوف يدفع أبناء مصر إلى الخروج للشوارع والميادين حتى يجرفوا كل من يعبث بثورتهم.
رفض قاطع
ففي أول رد فعل لها على قنبلة صحيفة “الشروق” ، أكدت اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة رفضها القاطع لتلك الأنباء ، قائلة في بيان لها في 17 مايو :” سنحاكم كل من ارتكب جرائم جنائية أو سياسية مهما كانت النتائج والتضحيات ولم ولن نفوض أحدا في العفو عن هؤلاء المجرمين”.
وأضاف بيان اللجنة “جماهير الثوار فى كل ربوع مصر سوف يستكملون الثورة ضد كل من يقف أمام إرادة الشعب مهما كان ومهما كانت التضحيات “، مؤكدا أن جماهير شعب مصر التي ضحت بدماء شهدائها وخرجت حاملة أرواحها علي أكفها حتى تتحرر مصر من هذا الطغيان والفساد ترفض كافة أشكال الخداع التي تقودها بعض القوي الحليفة للنظام السابق.
وتابع البيان “نحن جماهير الشعب المصري صاحب السيادة الوحيد علي أرضه ومصيره ومقدراته ومصدر كافة السلطات في هذا البلد التي استردها باندلاع ثورة 25 يناير الشعبية السلمية ، نؤكد رفضنا القاطع وتحذيرنا الشديد من أي خطوة تهدف إلى العفو عن مبارك أو أي من رموز النظام السابق الملوثة أيديهم بدماء الشعب وإننا نرفض أي اعتذار أو مصالحة أو مجرد الحديث أو النقاش في هذا الأمر”.
وطالب البيان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي ائتمنه الشعب علي ثورته ورئيس الوزراء عصام شرف الذي عاهد الشعب في ميدان التحرير أن يكون وفيا لثورته أن يقفوا ضد استصدار أي قانون أو نشر أية ادعاءات من الرئيس السابق حسني مبارك فى وسائل الإعلام بهدف التلاعب بعواطف الشعب كمقدمة لاستصدار العفو عنه أو أي من رجاله الفاسدين.
وشدد البيان على أن الرئيس السابق وعائلته وأعوانه الفاسدين يجب أن يحاكموا محاكمة عادلة حتى يكونوا عبرة لكل من يحكم مصر من بعد، قائلا :” نحن نحاكم نظاما ولا نحاكم أشخاصا”.
وأكد بيان اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة المصرية مجددا رفض أي محاولات تستهدف العفو عن الرئيس السابق حسنى مبارك وأسرته وأعوانه ، وحذر قائلا :” نود هنا أن نحذر من أن أي خطوة في اتجاه العفو عن مبارك أو عائلته أو أي من أعوانه تحت ما يسمي بالمصالحة سوف تشعل الثورة من جديد في ربوع مصر كلها وسوف تدفع أبناء مصر الي الخروج للشوارع والميادين حتى يجرفوا كل من يعبث بثورتهم ، الخوف مات في نفوس هذا الشعب، وأصبحت الحياة الكريمة أو الشهادة في سبيل الله والوطن هي غاية كل مصري حر شريف كريم”.
كما حذر البيان من وصفهم برموز النظام السابق من نفاد صبر الشعب ، قائلا :” إذا كان البعض قد فهم الثورة أنها ثورة سلمية وليست دموية وأننا حرصنا على أن تكون المحاكمات عادلة ومستقلة ومنجزة، إلا أنه في ظل هذه الأوضاع فإن كل الخيارات مطروحة”.
الإفلات من العقاب
واللافت للانتباه أن الرفض القاطع للعفو عن مبارك قبل محاكمته لم يقتصر على بيان اللجنة التنسيقية لجماهير الثورة المصرية التي تتكون من 8 حركات سياسية هي ” ائتلاف شباب الثورة، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجلس أمناء الثورة، وتحالف ثوار مصر، وجماعة الأكاديميين المستقلين، وائتلاف مصر الحرة، وبعض الشخصيات العامة من المستقلين” وإنما امتد أيضا إلى المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة .
فقد أكد المركز في بيان له أن جرائم وانتهاكات حقوق الانسان ومسئوليته عنها سواء ما تعلق منها على سبيل المثال بالقتل العمدى للمتظاهرين خلال أحداث ثورة يناير أو بالقتل خارج إطار القانون قبل الثورة أو التعذيب أو الاختفاء القسري أو غيرها من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لا تسقط المسئولية عنها بالتقادم وفقا للتشريعات الوطنية والمواثيق والتعهدات الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان.
وأضاف البيان أن ما يمكن العفو بشأنه في حالة الرئيس السابق حسنى مبارك هي الجرائم ذات الصلة بالفساد المالي إلا أن هذا يجب أن يتم بعد المحاكمة وليس قبلها .
وتابع المركز العربى لاستقلال القضاء والمحاماة ” قواعد العفو المعمول والمعترف بها على نطاق واسع بعد الثورات والانتقال إلى الديمقراطية تكون في أغلبها العفو عن العقوبة ، الأمر الذي يقتضي مثول المتهمين للمحاكمة أولا إعلاء لمبدأ سيادة القانون والمساواة أمامه”.
واستطرد ” بعد هذه المحاكمات يمكن النظر في طلبات العفو التى يقدمها من تمت إدانتهم في هذه الخروقات والانتهاكات وبما لا يتعارض مع حقوق الضحايا والمجنى عليهم “.
وأعرب المجلس في هذا الصدد عن خشيته من أن تعد مسألة العفو قبل المحاكمة ترسيخا لثقافة الإفلات من العقاب التى تتنافى وتوجهات ثورة 25 يناير التى شهدتها مصر كما أنها قد تخرج عن أهداف العدالة الانتقالية التي تستدعي وجود محاكمات للمتورطين في ارتكاب جرائم وانتهاكات لحقوق الانسان من باب إشعار الضحايا والمجني عليهم بأن المتورطين في ارتكاب الانتهاكات أصبحوا بمنأى عن العقاب وأن العدالة قد أفلتتهم ، الأمر الذي يثير حفيظتهم ويخلق حالة من الثورة الداخلية لديهم ويخرج بالعدالة الانتقالية عن مرماها.
وأكد المركز أيضا أن محاكمة المتورطين في الانتهاكات التى تسبق الثورات تضطلع بها قواعد وأصول العدالة الانتقالية على اعتبارها آلية قانونية ومجتمعية تعنى بغلق ملفات انتهاكات الماضي في الأنظمة الاستبداية السابقة ووفقا للأصول والقواعد التى تضعها العدالة الانتقالية وذلك على غرار تجربة جنوب إفريقيا وتشيلى.
وأعرب المركز في ختام بيانه عن قلقه من أن تكون الأنباء التي ترددت حول تنازل الرئيس السابق حسنى مبارك وأسرته عن الأموال المتهمين بالحصول عليها بغير سند قانونى في مقابل منحهم العفو وعدم محاكمتهم بداية لسلسلة من المبادرات سوف يقدمها العديد من المتهمين من النظام السابق رغبة في الإفلات من العقاب.
“أنا مش قابل اعتذارك يا مخلوع”
وبالإضافة إلى ما سبق ، ظهرت أيضا صفحة على “الفيسبوك” بعنوان “أنا مش قابل اعتذارك يا مخلوع ولازم تتحاكم” تنادي بعدم قبول اعتذار مبارك للشعب المصري مقابل العفو عنه وعن أفراد أسرته.
ووضعت الصفحة بيانا تؤكد فيه الأسباب التي تمنع قبول الاعتذار كالشهداء الذين سقطوا في أحداث الثورة بالإضافة إلي حادث العبارة والبطالة والجهل وانتهاكات الشرطة للمواطنين والمبيدات المسرطنة وحوادث القطارات .
وجاءت التعليقات علي الصفحة تنادي بعدم التفريط في دماء الشهداء وضربت الكثير من الأمثلة التي تؤكد ضرورة المحاكمة كالحديث النبوي الذي يدعو الي محاكمة الجميع دون تمييز ” لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”, وقالت التعليقات أيضا ” من هو أحسن من السيدة فاطمة بنت الرسول !!”.
كما دعا بعض المشاركين علي الصفحة إلي إقامة تظاهرة مليونية بميدان التحرير تدعو إلي عدم العفو عن الرئيس المخلوع وقال المشاركون :”إن المحاكمة تسمح لنا باسترداد الأموال فلماذا لا نحصل علي الاثنين ( المحاكمة والأموال)؟”.
ورغم أن السلطات المصرية لم تعلق بعد على ما ذكرته صحيفة “الشروق” ، إلا أن ظهور أصوات على “الفيسبوك” تدعو لقبول الاعتذار من أجل الحصول علي أموال الرئيس السابق ضاعف المخاوف من احتمال وقوع بعض المصريين في فخ “الاعتذار” وحتى إن تأكد عدم صحته ، الأمر الذي قد يتسبب في اندلاع اشتباكات مجددا بين مؤيدي ومعارضي مبارك مثلما حدث سابقا في عيد ميلاده أمام ماسبيرو .
ويبدو أن الأنباء التي رددها البعض حول وجود ضغوط خارجية وخليجية تمارس على الحكومة المصرية للعفو عن مبارك مقابل مساعدات اقتصادية قد تزيد الطين بلة في حال لم يصدر بيان رسمي وعلى وجه للسرعة للتعليق على ما ذكرته “الشروق ” .
فخ الاعتذار
وبصفة عامة ، فإنه يجب على المصريين عدم الوقوع في فخ “الاعتذار” أيا كانت صحته من عدمه وسواء كان مقصودا أم لا والنظر بعين الاعتبار لعدة أمور من أبرزها التوقيت الذي تم فيه تسريب مثل تلك الأنباء ، حيث أشار البعض إلى أن هذا الأمر تردد بعد أن ضاق الخناق عليه هو وأسرته ولم يسمع عنه في خطاب التنحي مثلا .
وبالنسبة للأصوات التي تنادي بقبول الاعتذار لأسباب إنسانية ، فإن هناك من أشار على الفور إلى ضرورة أخذ مآسي ضحايا نظام مبارك في الحسبان وإن كان بإمكانهم العفو عنه أم لا .
أما فيما يتردد حول التاريخ العسكري لمبارك ودوره في حرب أكتوبر ، فإن هناك من سارع للمقارنة بينه وبين الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية خلال حرب أكتوبر الذي تعرض للمحاكمة والسجن .
أيضا ، فإن التسجيل الذي نشرته قناة “العربية” مؤخرا لمبارك والذي نفى فيه بشدة وجود أرصدة مالية له في الخارج يبدو أنه مازال ماثلا في أذهان كثيرين خاصة بعد أن دحضت سويسرا مزاعمه وكشفت عن حجم أمواله في بنوكها وهو الأمر الذي ضاعف من الاستياء الشعبي ضد الرئيس السابق لدرجة دفعت البعض لاتهامه بقيادة الثورة المضادة عبر المحاولات المتكررة لكسب التعاطف وبالتالي إثارة الانقسام في الشارع المصري بعيدا عن التركيز على المضي قدما في تحقيق أهداف ثورة 25 يناير.
ورغم أن البعض يطالب بالتصالح مع مبارك فيما يتعلق فقط بتضخم ثروته للإسراع باستعادة الأموال المنهوبة وعدم تجاهل أية اتهامات جنائية موجهة له ، إلا أن هناك من يخشى أن يكون التصالح مقدمة لعفو شامل وبالتالي إفلاته من العقاب نهائيا .
والخلاصة أن أنباء اعتذار مبارك وإن وضعت الثورة أمام اختبار صعب آخر ، إلا أنه يجب على المصريين عدم الوقوع مجددا في فخ الانقسام والالتفات للتحديات الكبرى ، فالوطن أكبر من الجميع .
[/JUSTIFY]