السودان – الذي انفصل عنه جنوبه، ولازال أوّار “اللاسلم” يشعل الضغينة في دارفوره الجريحة،- تنتظره ملفات التنمية في الشرق؛ و التسوية في الوسط؛ و العدالة في الشمال؛ والإعمار والدمرقطة في المركز؛ و إصلاح التعليم الديني و المدني والتحول الاجتماعي المدني في العقول؛ وتجديد الدماء والتحرر من الأيديولوجيات وتعزيز وجود الإنسان مركزًا ومقصدًا للسياسات في المناهج، و هو سودان تتهدده -هو الآخر- الكثير من التحديات الدولية والداخلية، ولا سبيل لمواجهتها إلا بوحدة داخلية “حقيقية”- حقيقية غير وهمية أو شكلية- أساسها المصالحة الوطنية، التي تسبق أي فعل سياسي.
ليس خاطئًا ما قاله أحدهم بأن الوضع السياسي السوداني آخذٌ في التأزّم من جديد، وبأن الاستقطاب البغيض أطلّ بقرونه مرةً أخرى، واندثر الحديث الثر المستطاب عن الحوار بشقيه الاستراتيجي و المؤقت، واكتشف المواطن السوداني أنه لم يبرح مقامه الأول من النزاعات التي يتلظى بنارها، ولم يستفد من كل جولات الحوار إلا أن مرّن عاطفة التمني بانقضاء عهود الشقاق والاقتتال والاحتراب الهادئ والحاد، ولم يقم السؤال المنطقى الذي يجب أن يشغل الأكاديمي والسياسي والمفكر: لماذا نفشل في إرساء مجتمع سياسي راشد؟، لماذا نجيد توريث عُقد مجتمعية وسياسية ودينية ولا نستطيع إيقاف تناسل الإخفاق؟ ولماذا لم يعد البعض يثق في جدارة وقدرة الخُلق السوداني في خَلق وئام؟، وقطع نسل الانشقاق بإرساء مصالحة سياسية سودانية حقيقية؟.
لست متشائمًا بالقدر الذي توحي به هذه الكلمات، ولكن كل قارئ للتاريخ في هذه المرحلة، يود لو أن له صوتا كصوت ابراهيم – عليه السلام- إذ أذّن في الناس- ليصيح : أنقذوا السودان، أنقذوه لا من عُصبة حاكمة أو زمرة طاغية أو أحزاب متناثرة، ولكن أنقذوه من فكرٍ سياسي يحتاج إلى الكثير من الدروس ليندمج مع المواطن، من سياسات تريد الخير ولا تعرف كيف تصل إليه، من أيديولوجيات تتنازعه وتفيض بكل شئ إلا السلام، من فقر يكاد يفتك بالأوصال المجتمعية والسياسيية، من تطرف يستشري من قاعدة اجتماعية تنفرط، من تآكل داخلي للتنظيمات، من انمحاء لقيمة الفرد وتعلق بأوهام مجتمعية، من مجموعات تدعي لنفسها الصواب (وهذا حقها) و تقصي الآخر عن أي نسبة من الصواب، من إقصاء للآخر، واستعلاء طبقي فكري ديني سياسي، من حُمولات من الغبن السياسي والمجتمعي، من الاستبداد الفكري من العنصرية، من دولة تنفصل عن مجتمعها، ومجتمع يتقوقع في جهويته وعرقيته، و قوى تسامح تندثر!.
بالقدر الذي يجب أن نكون فيه طامعين في إبداع جيل جديد يناسب أحلامنا المعلقة، يجب أن يكون سؤالنا متخوفًا وقاسيًا، بالقدر الذي حَاولَ فيه البعضُ القسوة على الماضي البعيد، فلنكن قُساة على أنفسنا، خاصة في ما يُحدد مستقبل هذا الوطن وأجياله القادمة، لنعيد أسئلة تحاكم قيمنا التي يجب أن نراجعها ونعيد زرع الصالح منها، أساليبنا التي انتهجناها وأجهدتنا و”نهجتنا”؛ حتى أهدافنا التي ارتضيناها و”أردَتنا” تحتاج كلها إلى إعادة تقييم، مالم يحدث ذلك فإننا نُلقي بأجيالنا القادمة إلى التهلكة، ونعيد دورة ليست كريمة تتمثل في الدخول إلى نفق مظلم أطفئت كل الأنوار في آخره. أدخلنا فيه دعاة الإيديولجيات والتغيير الاجتماعي القسري و السياسي الجبري بما يُخشى أنه كَسَرَ الدولاب وفَرط العِقد وخرق العَقد وزاد “العُقد”، مالم نتداركه الآن.
بقدر الأزمة التاريخية التي تسوّق لها هذا الكلمات، فإن الفرصة أكبر، و بقدر الهوة بين النجاح والفشل فإن القلوب قادرة على منح الأمل، ولكن على العقول أن تُجسّر الهوة بينهما، فالفشل هو أن نستسلم لما نفعله مرارًا ونمنح أنفسنا الحق في تسفيه قدر الآخر ورفض آرائه و تحكيم حالات الغضب وتعميمها كأبرز لمحات الشجاعة والإباء؛ وتشويه صبر الآخر ونعته بالجبن، و النجاح هو أن نمنح الآخر (الحق في الخطأ)؛ ونفترض صواب رؤيته؛ ونحترمها ونفكر بعقله؛ وأن نتسامح معه لنا؛ و نُقَدّر صبره ونُحَّكِّم مصالح المستقبل على أوهام الماضي.
المطلوب في عقب هذا الكلام ليس كبيرًا في حجمه الفعلي، بل غالبه (عمل) من أعمال القلوب – وإن كان يحتاج إلى علم إلا أن وروده يأتي بالتوفيق- المطلوب إصلاح النوايا، ورفع سقف الطموحات والجلوس في طاولة حوار حقيقية تطرح فيها القضايا بغير مواربة ولا توريات ولا تخوفات.
المطلوب دفع دماء جديدة إلى واجهة السياسية السودانية، وعلى الكبار دفق الكثير من مداد المحبة والتسامح، و التخلي عن التشدد، والإيغال برفق في كل شئ، التخلي عن التنطع والاعتراف بالأخطاء، المطلوب أن نراجع أخطاء الماضي بعين تريد أن تتعلم لا تريد أن تتشفى، أن ننمي قدرتنا على النقد الإيجابي الذي يؤمن أنه حتى الصواب في الماضي يجب أن يُعاد النظر فيه ليُبنى عليه، فالعين التي تنظر للتاريخ على أنه “تاريخ” وحدها هي القادرة على أن تبني عليه وتضيف كسبها إليه، والعين التي تخشى أن تنظر إليه وترغب في إعادة بنائه هي التي تحسب أنها تحسن صنعًا بنسبها كسب التاريخ إليها وإهمال الحاضر، وهي وحدها التي يجني عليها اجتهادها!.
[/JUSTIFY]عمر البشير [email]Alnahlan.new@hotmail.com[/email]