ويقول الدكتور “هربرت بنسون” الأستاذ في كلية الطب جامعة هارفارد : إن الترسانة الطبية ـ دواء وتقنية ـ لا تمكن الأطباء من علاج أكثر من ربع الأمراض التي تصيب الإنسان وبقية الأمراض إما أن تشفى بنفسها أو لاعلاج لها .
ولا يوجد طبيب لم ير أو يسمع عن حالات شفاء مرض ما دون سبب طبي واضح لكن مثل هذه الحالات لم يتوقف عندها الأطباء لدراستها إما لضغط العمل أو إرجاع الأمر إلى ظروف خاصة لم يفهموها وبالتالي لم يدققوا بالبحث عنها .
إن الشفاء الغامض لكثير من الأمراض كان يحدث دوما منذ أن وجد الطب لكن أحدا لم يتوقف عند تلك الظاهرة التي يرجعونها عادة لأسباب مختلفة غير علمية أو على الأكثر إلى رحمة الله بعباده .
يقول د.”نورمان كوزين” إنه في بداية عقد الثمانينيات من هذا القرن وقد استثارته هذه الظاهرة حاول أن يجد كيف يمكن للجسم البشري أن يعالج نفسه ويشفيها سواء من جرح إصبع أو التهاب مفاصل أو اضطراب في المعدة أو نزلة برد وحتى من أمراض كبرى كالسرطان .
ولكنه وجد نفسه في طريق مسدود . هناك جهاز خاص للشفاء الذاتي لم تأت على ذكره فهارس كتب الطب أو قواميسه ومجلاته ولا يوجد مدخل خاص لجهاز العلاج الذاتي Healing System مع أن هناك مداخل لجميع أجهزة الجسم المختلفة ليس هناك إلا عناوين تندرج تحت أجهزة أخرى مثل “الجهاز المناعي” أو تحت اسم الخلايا التي تتحد لمقاومة مرض ما وبدا له الأمر غريبا ألا يكون هناك باب خاص لنظام العلاج الذاتي بالرغم من أهميته .
ولذلك كانت سعادته بهذا الكتاب The Healer Within خاصة أن مؤلفيه ـ ستيفن لوك ودوجلاس كوليجان ـ متخصصان في هذا الموضوع .
ويكشف المؤلفان لأول مرة في العصر الحديث عن أهمية وتناغم العقل والجسم لمقاومة المرض والتحديات الصحية الخطيرة التي تواجه الإنسان خاصة التعاون بين الجهاز العصبي والجهاز المناعي في نظام علاج ذاتي غير مرئي للقضاء على الأمراض .
ويركز المؤلفان على انبثاق علم جديد في الطب مازال في بداياته يسمى PNI اختصارا لـ Psycho neuro immunology المكونة من ثلاث كلمات Psycho بمعنى النفس وNeuro الأعصاب و Immunology علم المناعة .
ولنبدأ الحكاية من بدايتها
العقل يعالج الجسد
لقد تنبه الأطباء منذ زمن إلى عنصر شفاء لا علاقة له بالدواء ولا يبوح بسره لا إلى الاختبارات المعملية أو التحاليل الطبية أو الفحوص المجهرية .
عنصر له علاقة بمخ الإنسان وعقله وحالته النفسية ، فهناك جزء من مخ الإنسان يؤثر لخلق ردود فعل لدى الجسم ضد المرض . ولقد وجد هذا الفهم منذ “أبوقراط” بل ومازال يعتقد به في الصين فيما يسمى Fu – zheng لكنه يعتبر في العصر الحديث من الأمور الفلكلورية ، خاصة منذ قال “ديكارت” كلمته الشهيرة إن الإنسان مكون من جهازين : العقل والجسد ودراسة كل منهما تحتاج إلى طرق مختلفة .
ومن يومها ومنذ عصر النهضة ، بدأ التقدم العلمي بالتجريب على الجسم البشري لمعالجته من الأمراض بمعزل عن العقل وعلاقته بهذا العلاج مما وصل بنا إلى كل هذه الاكتشافات الطبية التي كادت تدفن الأطباء تحت وابل من المعلومات والتكنولوجيا الجديدة في مئات المجلدات بحيث لم يستطع الكثيرون متابعة التقدم حتى في الفروع التي يتخصصون فيها .
وفي فصل كامل من الكتاب يستعرض المؤلفان حالات مرضية شفيت بشكل غامض ودون سبب واضح .
مثلا : استوقفت د.برونو كلوجفر حالة مريض بالسرطان في جهازه اللمفاوي ، وكان في مراحله المتأخرة ولم يبق له سوى أيام ويموت . وكان هناك علاج جديد ستجرى تجربته على بعض مرضى السرطان هو : “الكريبيوزين Krebiozen” وتحت إلحاح المريض وافق الطبيب على تجربة العلاج عليه مع عدد آخر من المرضى . ولم تأت نتيجة العلاج بفائدة إلا مع هذا المريض الذي زالت أورامه السرطانية وشفي تماما تقريبا .
وحين أعلن في المجلات الطبية عن فشل هذا الدواء ، وعرف المريض بذلك انتكست حالته وعادت الأورام ثانية ودخل المستشفى فأخبره الطبيب أن هناك علاجا متطوراً أنتج من هذا الدواء وحقنه به فشفي تماما مع أنه لم يحقنه إلا بماء مقطر .
ومن هنا بدأ الطبيب دراسته على جهاز الشفاء الذاتي في جسم الإنسان .
يقول أحد الأخصائيين في الجهاز المناعي لجسم الإنسان : أعرف بالتأكيد أن هناك تأثيراً من المخ على جهاز المناعة لكني لا أستطيع القول كيف يتم ذلك ولا يمكنني أن أحدد الطريقة العلمية لهذا التأثير حتى أثبتها وأسيطر عليها .
ويعبر المتخصصون في جهاز المناعة عن قلقهم من هذه الظواهر وإن حاولوا تجاهلها لأن لديهم الكثير من الأسئلة الفسيولوجية المحضة التي عليهم أن يجيبوا عنها خاصة أن جهاز المناعة من الأجهزة المراوغة التي ليس لها مركز محدد معروف كبقية أجهزة الجسم فالجهاز التنفسي مركزه الرئتان والدموي القلب والعصبي المخ أما الجهاز المناعي فهو يتحدى الوصف التشريحي العادي “إنه كحقيبة جوالة من الخلايا دون تشريح ثابت” كما وصفه أحد الأطباء .
ويقول د. سيراف الحائز على جائزة نوبل وأستاذ علم الأمراض “الباثولوجيا” في جامعة هارفارد “علم المناعة من أكثر العلوم تعقيدا والأكثر تعقيدا منه هو دراسة كيفية عمل المخ” . وهو علم حديث ما عرفناه في ربع القرن الأخير عن جهاز المناعة أكثر مما عرفه الإنسان في آلاف السنين الماضية ومازالت الألغاز كثيرة ومازلنا بعيدين عن الفهم الكامل لعمل هذا الجهاز لتعقده وتركيب أجزائه وإذا كانت هناك علاقة بين المخ وهذا الجهاز فإن ذلك يثير من الأسئلة أكثر مما يجيب .
ويخصص المؤلفان فصلا للحديث عن جهاز المناعة العجيب الذي يظل في حالة استنفار دائمة ولو توقف عن عمله دقيقة واحدة لغزت جسمنا الأمراض .
ذاكرة الخلايا
إن جهاز المناعة السليم ظاهرة رائعة من الظواهر الطبيعية التي أبدعها الخالق وهو مصمم ليتعرف على أية خلايا غير خلايا جسده أو غريبة عنه ليقوم بتدميرها وأهم ملمح في هذا الجهاز هو ذاكرته فإذا تعرف مرة على عدوى وأنتج لها ما يقضي عليها فهو لا ينسى أبدا هذه التجربة فمن مواجهة واحدة يتعلم أن ينتج أسلحة كيماحيوية خاصة للقضاء على العدوى .
إذن يتكون الجهاز المناعي من :
1 – خلايا T وهي عدة أنواع :
أ – خلايا T المساعدة Helper T- cells وهي التي تأمر بالهجوم وترفع من مقدرته .
ب – خلايا T المثبطة وهي التي تأمر بتوقف الهجوم عند التغلب على الدخيل .
جـ – خلايا T القاتلة Killer وهي التي تدمر الخلايا السرطانية التي تحاول الخروج على نظام الجسد كما تدمر الخلايا التي أصيبت بالمرض .
وكل ذلك يتم عن طريق إشارات كيميائية تسمى Iymphokines وخلايا T هذه هي التي يهاجمها فيروس الإيدز ويدمرها خاصة الخلايا المساعدة التي يملك منها الفرد ضعف عدد الخلايا المثبطة . وحين الإصابة بالإيدز ينقلب الحال فتصبح الخلايا المثبطة أكثر من المساعدة .
2- خلايا ب وهي مساعد أساسي في سرعة الاستجابة لطلبات جهاز المناعة وهي مهمة لقدرتها السريعة ـ في لحظات ـ في تصنيع المادة المضادة التي تحارب الفيروسات والميكروبات والجراثيم فحين تتسلم الإشارة بنوعية المادة التي يفرزها العدو تتضاعف أعدادها بسرعة عن طريق الانقسام الذاتي وتبدأ بإفراز المضادات الموجهة للدخيل ثم تتحول إلى خلية بلازمية . هذه المضادات تتصرف بعدة طرق : بعضها يبطل مفعول السم الذي تفرزه البكتريا الغازية والبعض يحاصر البكتريا ذاتها ويذيبها .
3 – الخلايا الملتهمة : Phagocytes واسمها مشتق من اليونانية بمعنى يأكل . بعضها يحاصر الغزاة ويلتهمها وبعضها الآخر متخصص في التهام نتائج المعركة من الموتى ولها مهام أخرى مثلا عند الامتناع عن التدخين تتوجه هذه الخلايا إلى الرئتين وتلتهم ماعلق بالشعب الهوائية من آثاره .
4 – وهناك خلايا مناعية تسمى Null cells اكتشفت في أواخر السبعينيات وهي مثار اهتمام الباحثين في العلم الجديد PNI.. فهي قاتلة بالفطرة ومازالت لغزا حتى الآن ومن وظائفها الغريبة أنها تستطيع التعرف على الخلايا الشاذة في الجسم قبل أن تبدأ شذوذها أو تلك التي قد تسبب ورما .. وذلك دون خبرة سابقة فتقتل هذه الخلايا بصمت دون أن تتسبب بأي ضرر للخلايا المجاورة وبالتالي للجسد .
5 – مجموعة أخيرة ومهمة وخطيرة من الخلايا المناعية اسمها Mast cells وهي نصف شفافة وشبه كروية مليئة بحبيبات عبارة عن مادة من الكيماحيوية المركزة المكونة من : الهيبارين Heparin والسيروتونين Serotonin والهستامين Histamine .
وقد اهتم الباحثون في علم PNI بمادة الهستامين بصفة عامة هذه الخلايا مركزة في الجلد والعينين والأنف والفم والرئتين والأمعاء وتلعب دوراً مهما في الحساسية . فمادة الهستامين قوية بدرجة هائلة وإذا أطلقت من هذه الخلايا فقد تسبب الوفاة . فإذا كان الجسم حساسا لمادة ما مثلا سم النحلة فإذا دخل هذا السم الجسد تقوم هذه الخلايا بإطلاق الهستامين مما يؤدي إلى انخفاض ضغط الدم وحدوث أزمة قلبية . ورد فعل هذه الخلايا سريع يتم في ثلاثين ثانية . والسؤال هل كل هذه الخلايا تتصرف من تلقاء ذاتها أم أن لها علاقة بأجهزة الجسم الأخرى .
ساعة حيوية
لقد كان يعتقد حتى سنوات قليلة ماضية أن الجهاز المناعي يعمل مستقلا بذاته عن أجهزة الجسم الأخرى وذلك بعد عزل بعض الخلايا المناعية في أنابيب اختبار ووضع بعض الأعداء الطبيعيين معها ـ فيروسات وبكتريا ـ فتصرفت هذه الخلايا كما تتصرف داخل جسم الإنسان .
لكن التجارب أثبتت العكس بعد ذلك . فالبحوث المتقدمة بالمجاهر الإلكترونية وبطاقات الإشعاع الكيماوية والأدوات الخاصة بالجينات أثبتت أن وراء جهاز المناعة قوة لا علاقة لها بالمناعة تشكل وتطور وظائف النظام المناعي .
ويعمل هذا الجهاز حسب ساعة بيولوجية داخلية وأخرى خارجية فيكون في أضعف حالاته الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ثم ترتفع قدراته ليصل إلى أعلى نقطة له الساعة السابعة صباحا كما تقل قوته عن معدلها بعد الظهر وفي المساء .
وهذا يفسر جزئيا اختلاف تأثير الأدوية الخاصة بالجهاز المناعي في أوقات اليوم المختلفة . كما تتأثر قوته وضعفه بنوع الغذاء فالغذاء المحتوي على الزنك والفيتامينات يقوي الجهاز المناعي فهي التي تكون أساسيات هذا الجهاز . كما أن الآثار الجانبية للدواء الذي نتناوله ـ خاصة المضادات الحيوية ـ تؤثر بالسلب عليه . كما أن قوته تضعف بعد سن الستين خاصة خلايا T وهذا يفسر الإصابة بمرض السرطان عند البعض بعد هذه السن .
الأخطر من كل ذلك فقد ثبت أن الاكتئاب والحزن والتوتر تضعف من قوة الجهاز المناعي وأن الأمل والحب والهدوء النفسي تقوي من إمكاناته بدرجة كبيرة .
لكن السؤال: إذا كان هناك تأثير من المخ على الجهاز المناعي وهناك تأثير بالفعل فعلى الطب الآن أن يجيب عن قائمة طويلة من الأسئلة الصعبة : كيف يفعل المخ ذلك ? وما هي الحالة التي يكون عليها العقل ليتمكن من فعل ذلك ? وما هي الأمراض التي يجدي فيها ذلك التأثير ? ثم هل يمكن السيطرة على هذه القوة العقلية المؤثرة على الجهاز المناعي ? من هنا كان على الباحثين في العلم الجديد PNI أن يضعوا في اعتبارهم عدة مشاكل للتغلب عليها :
1 – الإعلان صراحة عن أفكارهم لما يمكن اعتباره حقيقة طبية ثابتة من أن جهاز المناعة خارج أية سيطرة من أي جهاز آخر في الجسم .
2 – الإعلان بأن العقل يمكنه السيطرة على الطريقة التي يحمي بها الجسم نفسه والتنكر لما يشير أن جهاز المناعة يعمل دون مساعدة .
3- أن يعرفوا بالضبط أين مقر العواطف والفكر في المخ فمن هناك تأتي السيطرة على الجهاز المناعي وهو تحد كبير لأن الجهاز العصبي أكثر تعقيدا من الجهاز المناعي .
4 – أن يكتشفوا الطريقة التي يعمل بها هذان الجهازان ـ العصبي والمناعي ـ وما هي الرابطة أو الروابط التي تصل بينهما .
وليس هناك للأسف وسيلة علمية دقيقة لقياس قوة الجهاز المناعي لدى فرد من الأفراد وكل ما يمكن عمله إجراء عدة اختبارات مختلفة كل منها يقيس عنصرا محددا ليعين فاعلية الجهاز المناعي جزئيا . ويذكر المؤلفان في فصل خاص التجارب العديدة التي أجريت وأثبتت أن الجهاز المناعي لايعمل في فراغ بيولوجي وأنه حساس للمؤثرات الخارجية . كما برهنت التجارب التي أجراها د.”روبرت أدر” مكان التأثير على الجهاز المناعي بتقويته أو بإصقالة بوسائل لها علاقة بالمخ كما ثبت أن تدمير الغدة الصنوبرية يوقف هذا الجهاز عن العمل . ولكن كيف تتم هذه العلاقة بين الجهاز العصبي ـ المنتشر في كل جسم الإنسان ومركزه المخ ـ والجهاز المناعي ? وما أهمية الأعصاب في هذا الجهاز .
ولأول مرة في تاريخ الطب تظهر احتمالات لشرح كيفية اتحاد المخ والعقل مع الجهاز المناعي لجعلنا مرضى أو بصحة جيدة ولكن هذا العلم مازال يحمل مشاكل كثيرة بسبب جدته وتحديه لبعض مقولات الطب الراسخة . ولقد استقبل هذا العلم PNI من الأطباء التقليديين بردود فعل تراوحت بين اللامبالاة والعداء الشديد للعلاج الذي بدأ استخدامه في مطلع الثمانينيات . لكن الصورة تغيرت منذ أواخر الثمانينيات فالكثيرون بدأوا يضيقون بالعلاج عن طريق الكيماويات والآلات والكهرباء والأسلاك والأنابيب والمجالات وما شابه وبدأ الإقبال على العلاج بالطريقة الجديدة ـ دون تدخل علاجي كيميائي أو إشعاعي ـ فيما يسمى بمجموعات العلاج العقلي ـ البدني Mind Body groups وقد كانت النتائج مدهشة في معظم الأمراض تقريبا من السرطان إلى السكر مرورا بالروماتيزم بأنواعه .
وقد أفرد المؤلفان فصلا كاملا للحديث عن هذه الوسيلة للعلاج ونتائجها . فهل نحن مقبلون على طريقة جديدة ـ قديمة في العلاج بما أحرزه الطب الجسدي والنفسي من تقدم تخفف من الآلام التي يعانيها البشر في هذا العالم الذي كثرت أمراضه .
ofouq.com