المتعايشون بلا تأمين صحي بينما الأمراض الانتهازية تفتك بهم
الحوار الذي أجرته (الرأي العام) أخيراً على حلقتين مع الأستاذ الجامعي،دكتور الفقه، المصاب بالايدز بجانب معظم افراد اسرته، كان بمثابة إلقاء (حجر في بركة الايدز الساكنة).. إذ انه شجع كثيراً من المصابين الخروج عن صمتهم والبوح باسرارهم ومعاناتهم مع هذا الداء.. عدد كبير من المصابين اتصلوا بي عقب الحوار مبدين استعدادهم الافصاح عن تجربتهم مع المرض.. توجهت إليهم صباح الأحد الماضي ودخلت عليهم في عقر دارهم باحد احياء العاصمة.. أولى ملاحظاتي ان الدار بلا لافتة مما يعكس جلياً حرص المصابين التقيد بالسرية خشية ردود الفعل التي يمكن ان تنجم من المجتمع حولهم.. حكايات مؤلمة.. قصص مأساوية.. معاناة عريضة من العذاب والألم والنسيان والإهمال الذي تلاقيه هذه الشريحة، خاصة الاطفال.. وإليكم التفاصيل الموجعة من داخل مقر (الجمعية السودانية لرعاية المتعايشين مع فيروس الايدز).
ايتام الايدز
من المعلومات والحقائق المؤلمة التي وقفت عليها ميدانياً داخل مقر (الجمعية السودانية لرعاية المتعايشين مع فيروس الايدز) مأساة (ايتام الايدز).. (مائة وسبعة وسبعون) طفلاً مصابون بنقص مرض المناعة المكتسب (الايدز)، والاشكالية انهم ايتام فقدوا آباءهم بسبب هذا الداء.. والرقم السابق لا يمثل العدد الكلي لهم، بل يمثل اولئك المنضوين تحت لواء الجمعية فقط، وهناك مئات آخرين خارج عضوية الجمعية، مما يعني ان الاشكالية كبيرة، خاصة وانهم ايتام توفى آباؤهم بالايدز، وتركوهم وحدهم في هذه الدنيا يصارعون الفيروس القاتل، والامراض الانتهازية المصاحبة، وتجاهل المجتمع والدولة وغفلته عنهم.. اطفال صغار السن، لا حول لهم ولا قوة، خرجوا للحياة ودماؤهم ملوثة بفيروس الايدز.. في البداية لم اصدق انهم بلا كفالة، ولا رعاية، ولا نصير سوى الله تعالى.. لا يلقون سوى الوعود لانتشالهم من كربتهم هذه.. ووعود من الجمعية القطرية لكفالتهم.. ووعود من ديوان الزكاة الاتحادي بتوفير التأمين الصحي لهم ولأعضاء جمعية المتعايشين البالغ عددهم (ثلثمائة وخمسين) متعايشاً، وايتام الايدز جزء منهم.. ايتام الايدز (المائة وسبعة وسبعين) طفلاً، أصبحوا ينامون ويصحون على الوعود التي تصطدم وتتحطم على صخرة الروتين، وسلحفائية القرار، وقسوة التجاهل واللا مبالاة، بينما هم يتعذبون ويتألمون في صمت.
وإلى جانب هؤلاء الاطفال هناك حوالي (الف وخمسمائة) متعايش بالولايات الشمالية الأخرى، وهناك الآلاف من المصابين خارج جمعية المتعايشين بولاية الخرطوم والولايات الشمالية.
ايتام الايدز، لم يتلقوا حتى زيارتي لمقر جمعية المتعايشين صبيحة الأحد الماضي، أي دعم من الزكاة، ولم يحظوا بأية كفالة، ولا تأمين صحي، سواء من الدولة أو من الزكاة أو من المنظمات والجمعيات الطوعية، خاصة التي يفترض عليها رعاية الطفولة والأقسى ان المجتمع يتفرج عليهم ولسان حالهم يقول: (هذا ما جناه علىّ أبي).. فهم حسب اعتقاد البعض: (أناس بلا اخلاق.. تحيط بهم شكوك العار والوصمة).. بينما هم اطفال اراد لهم الله ان يخرجوا للدنيا بدماء يسبح فيها فيروس الايدز.. بينما نجد المتعايشين الكبار تلاحقهم (وصمة العار) من المجتمع (الجاهل)، وهذه الوصمة أشد فتكاً بالمصابين من الايدز نفسه.. فالفيروس ينتقل بعشرات الوسائل وليس بالفاحشة وحدها، كما يعتقد البعض.. فالايدز يصيب كل الشرائح، فهناك مصابون اطباء ومحامون وصحفيون ومعلمون انضم إليهم أخيراً أستاذ جامعي دكتور فقه مقارن.
نظرة المجتمع السوداني لم تتغير نحو مرضى الايدز، وصمة العار لايزال المفهوم السائد، فرغم المجهودات التوعوية التي بذلت لايزال مفهوم (الوصمة) مترسخاً وعالقاً في اذهان الكثيرين، حتى لدى بعض كبار المسؤولين في الدولة.. وإلاّ لماذا يرفض بعض الاطباء اجراء عمليات الولادة وغيرها لمصابي ومصابات الايدز، أو التعامل مع جروحهم، والفرار منهم، وتحاشى حتى مصافحتهم.. ومن اخلاقيات المصابين إخبار الاطباء باصابتهم عند توجههم للمستشفيات للعلاج أو اجراء العمليات الجراحية، حتى لا يتسببون في نقل الفيروس للاطباء والكادر الطبي، ولكن هذه الاخلاقيات، أو (ميثاق الشرف) يقابل من بعض الاطباء بالنفور والامتناع عن اجراء العمليات الجراحية للمتعايشين أو عمليات الولادة للمتعايشات. وقد حكى لي أحد المتعايشين كيف انه ظل ينتقل من مستشفى لآخر مع زوجته التي كانت في حالة وضوع تتوجع وتتألم، وكان يخبر الاطباء ان زوجته مصابة بالايدز، وليته لم يفعل قال لي بحرقة: ما ان اخبرهم باصابة زوجتي حتى يتهامسون بينهم، ويتذرعون اخيراً ان حجرة الولادة غير جاهزة، أو الطبيب المختص غير موجود. متعايش آخر كان ينام ليلاً في الحوش بجوار والدته التي تعرف اصابته واخوانه الصغار، ولاحظ ان والدته تصر على تغطيته بالثوب رغم حرارة الجو، فكان يزيحه عنه، فتعود لتغطيته، قائلة: (يا ولدي اخوانك راقدين جنبيك).. كانت تخشى ان ينقل البعوض فيروس الايدز الى اخوان المصاب.. وهذا نموذج آخر يعكس جهل مجتمعنا بابسط طرق انتقال الفيروس رغم المجهودات التي تبذل بأجهزة الاعلام دون مردود محسوس.. هناك خلل ما يجب تداركه في جانب التوعية.
رجل الأعمال الشهير
(….) (ثمانية وثلاثون) سنة، رجل أعمال شاب، مشهور، عضو بالجمعية السودانية لرعاية المتعايشين مع فيروس الايدز، التقيت به بمقر الجمعية بالخرطوم، حكى لـ (الرأي العام) حكايته مع الايدز، قائلاً:
«كنت رجل أعمال ميسور الحال امتلك معرضاً للسيارات يضم أكثر من خمس عشرة عربة جديدة، وعدداً من المنازل والمحال التجارية واعيش حياة رغدة وهانئة، لم أكن ادري ما يخبئه لي القدر.. في العام 2006م، بدأت تنتابني حالات متقطعة من الاسهالات والفتور الذي تحول الى خمول، فأجريت تحاليل معملية وتشخيصية بواسطة أشهر الاطباء، لكنهم لم يكتشفوا سبباً لهذه الاعراض، واخيراً لجأت لفحص الايدز بمعمل استاك بالخرطوم بعد ان راودتني الشكوك لأنني كنت اعرف جيداً اعراضه، وللأسف كانت النتيجة ايجابية، اي انني مصاب بالايدز تسلل الفيروس الذي حير العالم الي دمي.
* قاطعته: كيف تسلل الفيروس الى دمك؟
– أجاب بحدة وكأنه يستنكر سؤالي: ليس هناك شخص مصاب بالايدز يجزم سبب الاصابة أو مصدر انتقال الفيروس إليه.
* لماذا؟
– فيروس الايدز ينتقل بعشرات الوسائل وعندما يتسلل الى الدم، فلن تحس به، بل انه يغزو دمك في الخفاء، بهدوء تام.
* كيف كان شعورك، ورد فعلك عندما اكتشفت الاصابة أول مرة؟
– أظلمت الدنيا في وجهي وصدمت صدمة نفسية كبيرة وقاسية، لدرجة انني فقدت توازني واخذت اهذي بكلمات وعبارات متقطعة غير مفهومة، وجاءني احساس انني لن اعيش للغد.. بعدها تدهورت صحتي وحالتي النفسية بوتيرة سريعة حتى لحظ الجميع ذلك.. وقتها كنت رجل أعمال ناجح ومشهور، ويشهد الجميع على طموحي وسمو اخلاقي.. أصبحت شارد الذهن وأهملت أعمالي واموالي حيث أصبحت اصرفها بغير حساب بعد ان حكم علىّ الفيروس بالموت لا محالة، كنت ابرر ذلك، أنني انسان على وشك مغادرة الدنيا، فما فائدة اموالي؟ وانخفضت مناعتي كثيراً، وهذا أكبر خطر يواجه مصاب الايدز، كما علمت.. فتوجهت لمستشفى بشائر بالخرطوم طلباً للعلاج، وهناك وجدت مناعتي أقل من (مائتي)، ولذلك نصحني الطبيب بضرورة تعاطي العلاجات اللازمة الخاصة بمرض الايدز وهي عبارة عن ثلاثة أنواع من الحبوب، تختلف من مريض لآخر، فالاطفال لديهم جرعات مختلفة وكذلك النساء، أما المتعايشون الذكور فعادة يتناولون (سبترين + دوفير + تراكثمول) اضافة لبعض أنواع الفيتامينات.
* ماذا يحدث للمصاب اذا لم يتعاط هذه الحبوب؟.
– يتعرض لانتكاسة حادة فمرض الايدز يمر باربع مراحل: (الاصابة والعلاج وظهور الاعراض والاعراض السريرية)، واذا وصل المرحلة الاخيرة فان الطب يرفع يده، ويحدث أمر الله (الوفاة).
* عندما اكتشفت الاصابة هل كنت متزوجاً؟
– أجل.
* هل اخبرتها باصابتك؟
– عندما اكتشفت تسلل الفيروس الى دمي كانت زوجتي حبلى بطفلي الثالث، في شهرها الأخير، واخبرتها باصابتي فوراً.
* ماذا كان رد فعلها؟
– طلبت الطلاق، فطلقتها على الفور، ولا ألومها على تصرفها ذلك، لكن بعد فترة وافقت على العودة لبيت الزوجية حتى يترعرع اطفالنا وسطنا، والآن نعيش معاً في منزل واحد.
* هل تمارسان الحق الشرعي؟
– ماذا تقصد؟
* أقصد العلاقة الزوجية؟
– اجل.
* ولكن كيف وانت مصاب الا تخشى انتقال الفيروس إليها؟
– استخدم العازل ولكن بحذر شديد، وقررنا عدم الانجاب مرة اخرى.
* كم طفل لديك؟
– ثلاثة اطفال، جميعهم غير مصابين والحمد الله، وكذلك، زوجتي والدتهم.
* هل أخبرت اسرتك باصابتك؟
– أجل جميعهم يعرفون، اذ انني لم اخف عليهم اصابتي بالايدز، وفي البداية انتابتهم حالة من الأسى والخوف، لكنهم لم ينفروا منى أو يقاطعونني فردة فعلهم في البداية كانت مجرد حذر، لكن بمرور الوقت، وبعد المامهم بمعلومات وافية عن المرض أصبح تعاملهم معي طبيعياً، بل مثالياً مقارنة ببعض أسر المصابين الآخرين، لدرجة انهم صاروا أكثر حرصاً مني على متابعة علاجاتي ويلاحقونني بالهاتف عندما أكون خارج المنزل لتذكيري بمواعيد الحبوب، بل ان افراد اسرتي اصحبوا يأتون لمقر الجمعية، وتعرفوا على اعضائها من الجنسين – زملائي في المرض – وهم يحفظون سر اصابتي ولم يبيحوا به لأحد خارج الأسرة.
اين التغذية؟
* أعلم ان مرضى الايدز يحتاجون الى تغذية خاصة لزيادة المناعة وعدم انخفاضها حتى لا يقعون فريسة للأمراض الانتهازية.. سؤالي: هل يجد المصابون أو (المتعايشون) مع الايدز من اعضاء الجمعية مثل هذه التغذية الخاصة؟
– اجاب بابتسامة استنكارية ساخرة: يا أستاذ من أين يأتي مرضى الايدز بهذه التغذية الخاصة، والمستمرة والمكلفة؟
* ما طبيعة التغذية التي يحتاجها المصاب حتى لا تنخفض مناعته عن الحد الآمن؟
– مريض الايدز يحتاج الى (3 – 5) أكواب عصير طازج، اضافة الى وجبات من الدجاج والاسماك واللحوم والألبان والسلاطة والفاكهة واذا توافرت للمصاب هذه التغذية فانه يضمن ان مناعته ستصل الى (ثمانمائة) أو أكثر واذا لم تتوافر له هذه التغذية – وهو ما يحدث مع معظم المصابين – فان المناعة تنخفض وتتدنى، مما يشكل خطورة بالغة عليه ويجعله فريسة سهلة للامراض الانتهازية التي يمكن ان تفتك به فتكاً، مع الاخذ في الاعتبار ان الحبوب الكثيرة والمتواصلة التي نتناولها تتسبب في الجوع، ولذلك يجب ان يصاحبها غذاء جيد.. ولكن من اين يا أستاذ؟
الأمراض الانتهازية
* هل تواجهون صعوبات في الحصول على العلاجات المتمثلة في الحبوب التي ذكرتها سلفاً؟
– من معاناة المتعايشين مع الايدز عدم توافر الادوية رغم انها تصرف لنا مجاناً؟
* هل تعلم من أين تأتي علاجات الايدز؟
– من صندوق الدعم العالمي لبرنامج الملاريا والدرن والايدز.
* ولمن تسلم الادوية في السودان؟
– لوزارة الصحة الاتحادية التي تقوم بدورها بتوزيعها على منافذ التوزيع، والتي توزعها على المتعايشين مجاناً.. عموماً علاجات الايدز لا تمثل مشكلة لنا، لكن الاشكالية الكبرى التي تواجه المصابين هي الامراض الانتهازية التي تغزو جسم المصاب كالدرن والملاريا، والامراض التناسلية، والالتهابات الجلدية، والاسهالات، فهذه الامراض ادويتها غالية ومرهقة مادياً للمصابين.
* هل يؤثر مرض الايدز على الحياة المعيشية لأسرته؟
– أجل.. فالمشكلة الاساسية التي تواجه معظم المصابين، تتمثل في تكلفة المعيشة لعائلاتهم، فمريض الايدز يحتاج الى مصاريف أكثر من غيره، خاصة ان معظم اعضاء الجمعية فقدوا أعمالهم نتيجة لظروفهم الصحية بسبب الايدز، أو بسبب (الوصمة الاجتماعية)، حيث ان المجتمع (الغافل) يرفض التعامل مع المصاب داخل العمل وينفرون منه.
* هل لديكم في الجمعية مصابون تم فصلهم عن عملهم الحكومي أو الخاص بسبب اكتشاف اصابتهم؟
– أجل.
* ولكن معلوم ان القانون يمنع فصل المصاب من عمله؟
– لا أقصد الفصل المباشر، ولكن الموظف أو العامل غالباً يتعرض لضغوط نفسية بسبب المعاملة الخاطئة من رؤسائه وزملائه في العمل، ولذلك يفضل الانسحاب بارادته من العمل، ونتيجة لتغيبه يفصل من العمل حسب لوائح وقوانين العمل. كما ان التصنيف الطبي للخدمة الوطنية لمرضى الايدز يأتي في الفئة (د)، أي غير القادرين على العمل، وبالتالي لا يمكن للمصاب الالتحاق بالشرطة أو القوات المسلحة، واذا اكتشفت اصابته وهو يعمل في هذين المجالين فانه يفصل فور اكتشاف اصابته.. فالمصابون يا أستاذ يعانون على كافة الاصعدة.
* ولكن حسب متابعتي لهذه القضية فان الدولة لا تألو جهداً لتذليل الصعاب وازاحة العقبات التي تواجه المصابين؟
– نحن نقدر ونثمن تحرك الدولة تجاهنا فهناك مثلاً الادوية المجانية التي تقلل انتشار الفيروس، وهناك انتشار لمراكز الفحص الطوعي بكافة الولايات الشمالية، بلغ عددها (خمساً وثلاثين) مركزاً، لكن مرضى الايدز يفتقدون للكثير وينتظرون خدمات أفضل واهتمام أكبر من الدولة.. وبصراحة الدولة غافلة عن مرضى الايدز.
* كيف؟
– اقصد ان الدولة ليست لديها استراتيجية واضحة لدعم ورعاية الاشخاص المتعايشين، بينما في معظم دول العالم خاصة الاوروبية، توجد لديها استراتيجية واضحة، ومحددة لدعم ورعاية المتعايشين، والاستراتيجية تعتبر الجانب المهم والحيوي في مكافحة المرض حتى لا ينتقل للآخرين، لذلك تجد المتعايشين في اوروبا يمارسون حياتهم العادية، ولا يخفون اصابتهم، يعملون ويعاملون معاملة طبيعية من الدولة والمجتمع معاً، عكس ما يحدث لدينا الآن في السودان، فمعظم المصابين يخفون اصابتهم، ومن يعملون يضطرون لترك أعمالهم بسبب المعاملة الخاطئة غير الكريمة والوصمة التي تلاحقهم.
* (قانون مرضى نقص المناعة المكتسبة وحماية حقوق المتعايشين)، داخل البرلمان منذ ست سنوات.. فمتى ينفض عنه الغبار؟.
صحيفة الرأي العام