النيل وخيرات الأرض هنالك.. ومع ذلك.. ومع ذلك…
نعم.. النيل وخيرات الأرض يبحثان عن مخرج لإظهار عطائهما.. والشعب يبحث عن مخرج من الضيق والأزمات المتتالية في تكرار..
لا يريد الشعب إسقاط النظام، ليس حباً في النظام، بل خوفاً من أن يعود إلى البيت ـ بعد »الإسقاط« ـ بخفي حنين عندما يكتشف »عودة حليمة لقديما« في برلمان »بيزنطة«.. فالشعب مؤمنٌ لُدغ مرتين..! والمطلوب هذه المرة إسقاط الفساد فقط.. وستأتي الحرية الحقيقية والديمقراطية بسقوط الفساد وقيام الشفافية في المعاملات..
إن الفساد هوالذي بدد عطاءَ النيل.. وأوهن خيرات الأرض منذ أن صارت السلطة، لدى البعض، هي التسلط.. وصار التعامل في »الحسابات« هوالتعامل في »المحسوبيات«.. والتسلط والمحسوبية قاسم مشترك في معظم المؤسسات في السودان.. وقد أفرخا أنماطَ فسادٍٍ مستدامٍ في جسد المعاملات الإقتصادية والاجتماعية.. وإذا غاب الفساد، صلُح العمل كله، وسادت اللوائح وارتفعت هامة القوانين.. وإن تمكَّن الفساد، تسلط الذئاب والكلاب وأبناء آوى على التشوهات والثغرات الكامنة في اللوائح والقوانين.. وأوسعوا مساحات التشوهات بمساحاتٍ تطيل إجراءات توصيل الخدمات للمجتمع؛ ورُبَّ عاملين ضِعاف النفْس والنفَس يخلقون الفراعنة والطغاة في كل مؤسسة بعد أن غُيِّبت التنظيمات النقابية ذات الفعالية ـ تلك النقابات التي بِمكنَتِها أن توقف كل معتدٍ على المال العام عند حده- وضعاف النفْس والنفَس لا يفتأون يتمسحون بالفراعنة والطغاة.. ولا ينفكون يُغرقون الفراعنة في عوالم الإحساس بالعظمة والكِبْر.. ويتلمس المتفرعنون الخوف والرهبة في عيون الضعفاء والمستضعفين فيستمرئون إذلالهم كما يمارسون ثقافة »كعبلة« مصالح المواطن.. وتلك »الكعْبَلَة« تفتح أبواباً تمكِّن المتجبرين من السطو على كل الحقوق وإفساح المجال للعب بالتطلعات »المشروعة« لأبناء وبنات السودان والمقيمين فيه والقادمين إليه.. فيُضطر هؤلاء وأولئك للولوج إلى »الحقوق« عبر بواباتٍ يُحاسِب عليها القانون الحاضر المُغَيَّب.. يقال إن النهب العام تضخم قبيل البدء في تنفيذ اتفاقية نيفاشا.. حيث كانت البلاد في حالة انتقال من مرحلة إلى أخرى فكثر »خم الرماد«.. وازداد الفساد خلال تنفيذ نيفاشا..
ويقول الباحث/ الاقتصادي منير في ورقة له بمجلة »المستقبل العربي« العدد 328 حزيران 2006 تحت عنوان »الاقتصاد السياسي للفساد«:-
»… وكلما كانت الوظيفة ذات حساسية خاصة أو كبيرة، يرتفع حجم الريع الفاسد. كما يرتفع هذا الحجم عندما تكون البلاد تمر بحالة قلقة ما يجعل المسؤول يعمل على رفع سعر خدمته شعوراً منه بأن الزمن يسابقه، وقد تكون فترة نهاية خدمته قد أزفت.«.. والسودان يعيش مرحلة انتقال أخرى حالياً.. ومرحلة »خم رماد« أخرى عند بعض المغادرين.. وهي مرحلة »دار أبوك كان خِرْبَت شيل منها شيلة« عند بعض المقيمين! وكل شيء هادئٌ في »الربع الخالي«.. وثمة زمرة من »علماء السلطان« مستعدون أن يَشْوُوا »الزبدة«، حين يطلب منهم »المتفرعنون« أن يفعلوا ذلك.. فتُهدر الموارد ويعلو أثرياء »التسيب المنظم« بينما أسراب الشعب المقهور »في المزابل والخرائب ينبشون«.. جرائم تُرتكب.. وقد تُكتشف وقبل اكتمال التحري تتدخل السياسة بشراسة.. فيختفي »الملف«.. ومن ثم توكل ولاية المال العام »السائب« إلى المشكوك في أمانتهم.. مالاًً يَهتَبِلُ وضعيتَه »الإنسيابيةَ« أولئك الذين في »جيناتهم« ذرات مكثفة من خيانة الأمانة فيغترفون منه ما شاءت لهم انسيابية المال..
»النقاط جاهزة لتأخذ مواضعها فوق الحروف..!« ويظل اللصوص و»الكلاب« والمهرجون يتحركون في استعلاء بين الناس.. مؤامراتٍ تتحرك في الردهات.. سماسرةٌ وموظفون صغار تحت الأشجار الظليلة يحتسون الشاي والقهوة واليانسون والحلبة.. يتضاحكون.. ويرتبون لصفقاتٍ بملايين الجنيهات »بالقديم« وتنتقل الملايين »الحرام« من أسفل إلى أعلى..إلى أعلى.. وتتم قسمة الملايين »قسمةً ضيزى«.. ويستمر كل شيء هادئاً في »الربع الخالي«.. غابت الدهشة عن الوجوه والرشوة تمشي عاريةً بين المشاهدين.. ولا يندى جبين أيِّ من ممارسيها.. إنهم لا يكترثون بالمشاهدين.. لكن الألسن تُستثار عند بلوغ الفساد منتهاه.. فالمشاهدون حول ستات الشاي يتحدثون عن كل شيء.. عن النمل الذي يسرق السكر لإطعام الملكة في بيت النمل.. و»يتهامسون: نحن الشعوب الضائعون«! إن بقاء »الكبار« على كراسي الوظيفة لمددٍ طويلة يخلق الشعور لدى »الكبير« بامتلاك الكرسي.. فتكبر في نفسه »الأنا« التي بعدها الطوفان.. ويصغر في عينيه المواطنون.. ويستشري الفساد الإداري والمالي معاً بحيث يعضد كلٌّ منهما الآخر في هجوم كاسحٍ لخطف اللقمة من أفواه »سكان المستنقع«.. نفس العناصر في كل المرافق.. بنفس العقليات والرؤى والممارسات، وإعادة إنتاج نفس الأخطاء كل عام.. ونفس الوجوه »بأكثرية جادةٍ بشرف« تأتي جلسات مجلس الوزراء- بعد التنقل بين الوزارات المختلفة- تأتي لتكرر في كل جلسة نفس الأفكار منقولةً من جلسات الأعوام السابقة ربما بطرق تختلف شكلاً ـ لا مضموناً.. وتتنزل القرارات على المؤسسات بنفس الأسلوب.. وتكرر المؤسسات ـ بنفس وجوه »الكبار« ـ نفس الأفكار »المرتبكة«.. لتنتج مزيداً من الأصفار في مجالات التنمية »المستدامة«..
كان المراجعون مهابين بما فيه الكفاية.. وكانت لتقاريرهم قدسية القضاء.. ولم يكن أحدٌ، حتى رئيس الجمهورية أورئيس مجلس السيادة، يتدخل في شؤونهم، ناهيك عن مستشار أو وزير أو وكيل أو مدير عام.. وكان هناك مرفق يختص بالمشتريات العامة.. وبالتخلص من الفائض بكفاءة عالية.. كفاءة تُضيٍّق فرص النهب العام.. لكن جاء من ألغى تلك اللجنة المركزية.. وبإلغائها مهّد لهدر الإمكانات ودمار الاقتصاد السوداني أكثر.. وما زال النيل هنالك وما زالت خيرات الأرض هنالك… في انتظار من يرفع عن الرائع/ صلاح أحمد إبراهيم الغبن..!
الانتباهة[/JUSTIFY]