الحقائق الغائبة .. السودان في حاجة للمفاعل بشرط تأهيل البنية التحتية للأمن النووي

استناداً للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوجد في العام «244» مفاعلاً نووياً تنتج «573» غيغا واط كهرباء.. وهناك «56» مفاعلاً نووياً تبلغ طاقتها «36» غيغا واط يجرى بناؤها حالياً بـ«61» دولة.. بجانب عشرات الدول التي تخطط لبناء مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء وبعض الاستخدامات السلمية الاخرى.. وفي المقابل بعضها عدل عن الفكرة لاسباب اقتصادية .. فامريكا مثلاً كانت تنوي بناء «61» مفاعلاً جديداً دفعة واحدة ولكنها بدأت بمفاعلين فقط للتكلفة الباهظة والحادث الذي تعرض له مفاعل «فوكوشيما» شمال شرق اليابان جراء الزلزال الذي ضرب اليابان مؤخراً، جعل كثيراً من الدول تراجع قراراتها وتعيد حساباتها خاصة في ما يتعلق بمسألة «الامان النووي» ومعلوم ان هناك اتجاها لبناء مفاعل نووي سوداني بغرض توليد الكهرباء النووية الرخيصة والمستقرة .. وهناك مشروع آخر قيد الدراسة لبناء مفاعل نووي بحثي.. فهل البنية التحتية اللازمة لبناء مفاعل نووي متوافرة بالسودان؟ وهل لدينا علماء متخصصون في هذا المجال قادرون على ادارة ومراقبة وتأمين المفاعل النووي؟ وهل يمتلك السودان «استراتيجية نووية» تجعله قادرا على ارتياد هذا المجال والتغلب على الصعوبات والمخاطر التي تواجهه؟ خاصة ان التقديرات تشير ان تكلفة اقامة محطة كهرباء نووية واحدة تصل الى «6» مليارات دولار؟
….
مفاعل نووي.. لماذا؟
مشروع المفاعل النووي السوداني يفترض ان تشارك فيه عدة جهات، منها: «هيئة الطاقة الذرية السودانية- وزارة العلوم والتكنولوجيا- الكهرباء والسدود- البيئة- العدل- المالية- الداخلية- جهاز الامن والاستخبارات- الصناعة- التعليم- الري- منظمات المجتمع المدني- جمعية ونيابة حماية المستهلك».. ومعروف عالمياً ان التكنولوجيا النووية تسهم في التنمية الاقتصادية للدول بشكل كبير والامثلة على ذلك كثيرة، كما يحدث الآن بامريكا، وفرنسا، وكوريا، وايران، فجميع الدول المنتمية للنادي النووي تستفيد منها في مجالات مختلفة كالصناعة، والزراعة والطب، والكهرباء، والعلاج والتشخيص، والطيران للتأكد من جودة الطائرات، والتأكد من صلاحية انابيب النفط.. فالكهرباء التي توفرها التكنولوجية النووية تعد من ارخص الوسائل المستخدمة لهذا الغرض، فهي تعطي كهرباء بشكل ثابت، وطاقة عالية، وسعر رخيص، مما يؤثر على الزراعة والصناعة والتنمية عامة.
وفيما يتعلق باستخدام الطاقة النووية في التوليد الكهربائي، فان جرام اليورانيوم الواحد يمكنه اضاءة مدينة سكنية لمدة يوم كامل، بينما يحتاج لكثير من براميل النفط لتوليد الكهرباء لنفس المدينة، مع عدم اغفال الارتفاع المتواصل لاسعار المحروقات، بينما سعر الوقود النووي يظل ثابتاً ومستقرا لمدة عشرين سنة، أو اكثر، حيث يمكن تخزينه في مساحة محدودة عكس النفط، بعبارة اخرى الوقود النووي لا تتأثر بالازمات الاقتصادية والسياسية العالمية، كما يحدث مع النفط، وابسط مثال لذلك ارتفاع سعر برميل النفط عقب اندلاع الانتفاضة الليبية..كما ان الصناعات التي تستخدم الطاقة النووية تكون منتجاتها ارخص سعرا، لاعتمادها على الكهرباء الرخيصة المولدة من المفاعل النووي، مع استقرارها وهو عامل مهم في استقرار الصناعة وتطورها، فالمفاعل النووي يمكن ان يعمل لستة أشهر دون توقف، ولذلك فالكهرباء التي ينتجها تتميز بالثبات ورخصها اذ ان سعر الكيلوجرام من اليورانيوم الواحد في حدود «51» دولاراً، والجرام النقي المستخدم في المفاعل النووي يمكن ان يضئ مدينة كاملة… فالفارق كبير جدا في الجدوى الاقتصادية بين الكهرباء النووية والكهرباء العادية، رغم ضخامة تكاليف انشاء المفاعل النووي التأسيسية حيث ان الدولة التي ترغب في انشاء مفاعل نووي عليها انفاق ضعفي قيمة المفاعل على البنية التحتية اللازمة له خاصة تأهيل الكادر البشري والطرق، فطرقنا الموجودة حاليا لا تصلح لنقل مفاعل نووي ولو كان صغيراً، وكذلك لا تصلح لنقل حتى المصادر المشعة.. كما ان الكهرباء النووية تتطلب تغيير كل شبكات الكهرباء القائمة حالياً.
من جملة الفوائدة السابقة يمكن القول ان السودان يحتاج فعلاً للمفاعل النووي ودراسات الجدوى تثبت ذلك، ولكن بعض الخبراء العاملين في هذا المجال يرون ان قيامه لابد ان تسبقه تجهيزات كثيرة، مكلفة لكنها مهمة وضرورية خاصة البنية التحتية للأمن والأمان النووي، حيث انها غير متوافرة الآن بالسودان بشكل تام، وحتى الموجود منها نؤكد انه يحتاج لاعادة ترتيب وبعضها غير موجود اصلاً.
الإستراتيجية النووية
بالنظر الى الدول النووية، اي التي تمتلك مفاعلات نووية سلمية، نجد ان لديها «استراتيجية نووية» أو «برنامج نووي» ومعلوم ان «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» من وظائفها دعم ومساعدة الدول لتوفير الامكانيات اللازمة في هذا الشأن، والبرنامج النووي، أو الاستراتيجية النووية يعرف حاجة الدولة للاستخدام النووي ويدرس كل الامكانيات المتوافرة والحاجة للاستخدامات النووية في البلد المعني، وبموجبها نضع برامج ومشاريع لإعداد دراسات جدوى في كل مجال كالصحة والطب، والزراعة والصناعة، والنفط، والصناعات الثقيلة، بما فيها حسم الدولة لاستخدامات الطاقة النووية في الجانب السلمي، اذ ان الجانب العسكري لم يعد خيارا متاحا للدول بموجب الاتفاقيات الدولية.
وبعد رسم السياسة النووية، على الدولة توفير إطار دستوري قانوني عام للاستخدامات النووية، وبموجب القانون ينبغي وجود جهة وحيدة مسؤولة عن تنظيم ومراقبة الممارسات والأنشطة النووية في الدولة، وهو ما يعرف بـ«الجهاز الرقابي للانشطة النووية والاشعاعية» كما هو موجود الآن في السودان.. ايضاً على الدولة الراغبة في دخول المجال النووي تأهيل كادر يكون لديه الكفاءة اللازمة لتشغيل واستخدامات الطاقة النووية، ومراقبة الانشطة النووية، مثل شركات البترول، والتنقيب، والكهرباء، حتى المياه الغازية، وتحسين البذور ذلك لان الاشعاع عموماً لديه جانبان متماثلان- الفائدة والضرر- وبمقدار ما لديها من معرفة وتأهيل تستطيع الدولة تقليل الاضرار التي يمكن ان تنجم عن الاشعاع، والعكس صحيح.
على سبيل المثال، العلاج بالاشعة، اذ يمكن في ظل ظروف محددة ان يكون علاجاً ناجعاً وآمناً، وفي ظل ظروف اخرى محددة يمكن ان يكون وبالاً ومضراً على المريض.. فانعدام الرقابة على الانشطة الاشعاعية يمكن ان يؤدي الى «كارثة» والمثال السابق ينطبق على كل الممارسات الاخرى. فالدولة غير المؤهلة نوويا يمكن ان تؤثر على كل المنظومة النووية، فالمستثمر في هذا المجال يمكن ان يستوعب في العمل اشخاصاً غير اكفاء بهدف تخفيض التكلفة- المنصرفات- مما قد يتسبب في اضرار فادحة، بل ربما كوارث.. والمصادر الاشعاعية لا تصبح مضرة فقط حالة التعامل معها بدون اكتراث، لكنها يمكن ان تكون مصدرا لعمل متعمد، كـ«القنبلة القذرة» مما يضر الاقتصاد والتنمية، والامن ولذلك ينبغي توفير امن كاف لكل المصادر الموجودة في البلد لضمان عدم حصول البعض على مصدر مشع، وتصنيع «قنبلة قذرة» والتى يمكن ان تصيب المواطنين وتحدث آثاراً نفسية بالغة عليهم.
ايضاً من الاشياء المطلوبة للدخول في المجال النووي، توفير قاعدة عريضة من القبول الشعبي للمشروع النووي، وذلك بالتوعية وايصال الجدوى الحقيقية للمشروع للمواطنين حتى يدعموا المشروع ولا يقفوا ضده، فعلى الدولة بكامل شرائحها، حتى المعارضة الوقوف معاً لدعم المشروع النووي، حتى اذا حدث اي تغيير في الدولة يتأثر المشروع النووي به، وبالتالي فان تبصير الجمهور مهم لنجاح المشروع النووي، خاصة ان الاستثمار فيه كبير جداً، يقدر بحوالي ستة مليارات دولار لمحطة الكهرباء النووية الواحدة.
الأمن النووي
المصادر المشعة أصبحت تدخل البلاد للاستخدامات المختلفة، خاصة في قطاعي البترول والطب، فالامن النووي بالسودان يتطلب فتح مكاتب بمدن البلاد «المنافذ» لمراقبة المصادر المشعة بالمناطق الحدودية، وفعلاً قامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدورها المنوط بها في هذا الشأن بارسال المكون الخارجي المتمثل في مئات الآلاف من الدولارات، غير ان السودان، ممثلا في هيئة الطاقة الذرية السودانية فشل في ايجاد المقر لمكاتب مراقبة المصادر المشعة، وتأهيل العاملين عليها ووسائل الحركة «عربات- شبكة- اتصالات خاصة لربط كل النقاط الحدودية مع بعضها البعض»، ولعدم نجاح السودان ممثلا في الهيئة توفير المكون المحلي لمكاتب المراقبة وغيرها من المشاريع، فان ذلك يضع السودان في خانة عدم الثقة وبالتالي تنعدم فرص استقدام دعم من الخارج للمشاريع النووية المستقبلية، لانعدام الجدية والمصداقية للسودان لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فالمكون الخارجي الذي تقدمه الوكالة للدول قد يكون في ارسال خبير للقيام بدورة تدريبية، وعلى السودان تجهيز قاعة المحاضرات والنثريات للمتدربين، ويمكن للخبير الواحد تدريب خمسين متدرباً مقابل عشرين الف جنيه سوداني. ونفس هذا المبلغ لا يكفي لتدريب خبير سوداني واحد بالخارج، ومن هنا تنبع اهمية توفير المكون المحلي للمشاريع النووية لفوائده الكثيرة التي تعود على الوطن وتنميته.
وحسب متابعات «الرأي العام» فالدولة الآن غائبة تماماً عمّا يتعلق بالمكون المحلي الداخلي للمشاريع النووية، مما تسبب في عدم تكوين البنية التحتية للمفاعل النووي المزمع انشاؤه، وسيؤدي ذلك التقاعس لإطالة زمنه، مما يعتبر خصما على السودان.. وأقول من غير سخرية أو تهكم «نحن غير قادرين على تنجيل ملعب كرة لمنافسة افريقية كروية .. فكيف سنبني بنية تحتية لمفاعل نووي»؟.
اللجنة الفنية
اللجنة الفنية مهمتها اعداد دراسة الجدوى لانشاء مفاعل بحثي، وهي تباشر اعمالها بدون أية ميزانية تسيير، لان مهمتها الاستقصاء عن الجامعات السودانية ومدى معرفتها بهذا المجال، ويتطلب عمل اللجنة وصولها لكل المصانع لاستقصاء الامكانيات الصناعية الموجودة في السودان والجامعات كما ان على اللجنة القيام بمهمتها بصورة علمية متكاملة، والوصول لمعظم انحاء السودان، وكمثال قدمت اللجنة ميزانية في حدود «2» الف جنيه للوصول لكل الجامعات بولاية الخرطوم، ويفترض ان توفرها هيئة الطاقة الذرية بواسطة وزارة المالية، التي لم تلتزم بهذه الميزانية الضئيلة لهذا العمل الكبير. والادهى من ذلك ان اللجنة الفنية لم يكن لديها مكتب خاص بها، وكانت تباشر اعمالها من قاعة تعليمية دراسية داخل الهيئة، رغم وجود مكاتب بمقر الهيئة بالرياض بالخرطوم، لكنها مشغولة باشياء اخرى ليست أكثر أهمية من عمل اللجنة الفنية. بل ان الهيئة فشلت في توفير جهاز (u.s.p) للنت والمهم لعمل اللجنة.

صحيفة الرأي العام

Exit mobile version