لا تُفسر الحركات التاريخية المسنودة بالجماهير بأي حال من الأحوال بأنها “فتنة” و لا تُحمل على كونها “مؤامرة” (بسهولة)، بل إن مفهوم الفتنة والمؤامرة يصنفان في فقه الواقع السياسي على أنهما : لسان من ضعف عن إعمال الفكر السياسي الناضج؛ ومخرج من عجز عن قراءة صيرروة الأحداث؛ أو من تكاسل عن فك ألغاز الخريطة السياسية الآنية، وهذا هو المنطق الذي يسود في هذه المرحلة من التاريخ التي تركب موجة تأييد الثورات حتى وإن كانت مجهولة النسب والآباء و الأفكار؛ تلك الثورات التي أسفرت “في ظاهرها” عن وجه “الشباب الغاضب”، ورفعت شعارات اللاء لفلان ولعلان من الزعماء، وندائه بأحقيته بالإنسانية ذاتها التي يتصف بها غيره من شباب القرن الحالي.
يبدو الحديث الرافض للفتنة والمؤامرة صحيحًا إلى حد ما، و لكن نقيضه يدمغه ويدحضه بقوله بأن الفتنة خيط واحد في نسج ثوب كامل، و قليلها ككثيرها، ويراهن كثيرون على وجود خيوطها في الأحداث الأخيرة التي فعلت (وتفعل) بدول المنطقة مافعلت، ولكن هذا ليس أونهما!.
فالرأيان لهما الوجاهة وموجبات الاحترام، ولكن ما يهم الآن هو أن يتم إعادة ترتيب المنظومة العربية المتبقية، وفق نتاج الأحداث الأخيرة، ولتمام ذلك يجب قراءة رسائل هذه الأحداث بعناية، بل وتجاوز ذلك لتدارك التداعيات المتوقعة على المستوى السياسي العام للمنطقة وللبلدان، وكمثال للتوضيح للرسائل لدول المنطقة نقول مثلاً وبصورة جلية : إن اضطراب مصر هو كسر كبير لدول الاعتدال العربي وشرخ عظيم لها، ومهما عوّل الناس على وعي الشباب الثائر في دفع قيادة تواصل الدور المفصلي الذي كانت تؤديه المحروسة- إلا أن هذا التعويل لا يمكنه كسر ثوابت التاريخ أن البناء لا يمكن أن يكون بسرعة وفاعلية الهدم، و قد هدمت الثورة المصرية في إطار إزالتها لما تكره الكثير من صمامات الأمان، ولاستعادة بناء ما تم هدمه فإن علينا الانتظار كثيرًا، ناهيك عن عدم ضماننا للبنة التي ستبنى منها القيادة الجديدة!.
إن نتاج الذي حدث ويحدث يتعدى الحديث عن الإصلاح السياسي و ضرورة مواكبة المتغيرات، ويتعدى ضرورة قراءة التاريخ والواقع، ومحاربة الفساد والفقر والبطالة، إلى أن يصل إلى منصة توجه الرسائل الهامة والتي نقرأ منها: رسالة إلى دول الحزب الواحد؛ مفادها أن تداول السلطة في دول الأحزاب التعددية سنة كونية لا يمكن كبحها بأي حال من الأحوال، وأن توسع الحزب الواحد وإضعافه للأحزاب الأخرى، سينجح شكليًا- في فض الجماهير عن الأحزاب الأخرى ولكنه في لحظة محتومة وأجل مكتوب سيفرغها في الشارع وسيبثها كما بثت جماهير الدول التي رأينا.
و أيضًا هناك ملاحظة يقرأها النابهون من مستشاري الساسة وبطانتهم: وهي تتمثل في أن وجود النخب المحترمة الصادقة الناطقة بحرية ضرورة مهمة؛ يحتاجها الشعب ليجد من يسمع منه؛ وتحتاجها السلطة لتجد من تسمع منه، فيجب منحهم براح واسع من الحرية ومساحة للمناصحة .
ورسالة إلى دول الاعتدال العربي، أن من يحاربها يحاربها من الداخل ويعبئ شعوبها باتخاذ المواقف الدعائية على الصعد القومية والمحلية، فعليها أن تواصل مخاطبتها لشعوبها وشرح الحقائق له، وتهيئته و ابراز الاهتمام به، و الموازنة بين جهودها العظيمة للحفاظ على السلام في الشرق الأوسط وبين جهود التنمية الداخلية والانفتاح المجتمعي، وعليها أيضًا إعادة النظر في الثقة بحلفاء الاعتدال من المفترضين.
أوضح الرسائل، دلت على أن الوتيرة البطيئة للإصلاح السياسي لم تعد تخدر الجماهير، وأن من أراد أن يسلم عليه أن يسبق المطالب، ويتقدمها، ويبهر المتابع بضخ الإصلاحات الآنية السريعة والعاجلة، وتلمس أنفاس المطالب لتلبيتها وشرحها، فالحوارالآن لم يعد مطلبًا حقيقيًا بل إنه ما رفعه الشباب شكايةً مفادها : لم تحاورونا، وهي جملة شرطية أسقطوها عمدًا مفادها: لم تحاورونا قبل الثورة فلن نحاوركم بعدها؛ فالحل أن يبادر صناع القرار بالإصلاحات العاجلة التي تتناسب وطموحات الجماهير، وليعلموا أن هذه الإصلاحات ليست إلا “عربونًا” لخلق مناخ للتحاور.
إن الدعوات التي يجب أن تصعد في السودان اليوم و ترتقي هي الدعوات للإصلاح السياسي السريع، ودعم التوجه الرئاسي لمحاربة الفساد الذي أعلنته مشكورة الهيئة القيادية الرسمية، وتعضيد الخط الجديد للحوار الحقيقي، و تثبيت مبدأ المرونة العالية من طرفي الحكومة والمعارضة في الحوار حول الدستور، واستيعاب الشباب في الأحزاب والمؤسسات، فإن الشباب الذي خرج في مصر و تونس وليبيا، خرج قبل أشهر مؤيدًا لرؤسائها، أملاً في ملبس حسن و مسكن حسن وعيشة كريمة و حرية وأمان، لا يريد حياة الترف بل الكفاف الذي يجعله يتساوى في إنسانيته مع الغرب و الشرق، بعيدًا عن القمع والفقر والبطالة، وأملي أن أهل السودان اليوم يدركون تمامًا أن الدخول في إصلاح سياسي هو باب للدخول في سودان جديد يسع الشباب؛ ويجب إزكاء تحمل المسؤولية ودعمه: يقول ناشر الفورن بولسي مالكوم فوربس إن من يستمتعون بالمسؤولية غالبا ما يحصلون عليها، أما من يحبون مجرد ممارسة السلطة فغالبا ما يفقدونها، فليستمتع الجميع بمسؤوليته وليخدموا الوطن، شعبًا وحكومة.
إن حديثنا وتعاطينا مع الأحداث، مع إيماننا بأنها قد تكون مدبرة ليس تعاميًا عنها، ولكنه محاولة لاستغلال الحدث في تحقيق إصلاحات لإنسان السودان، و للوطن، وتأكيد على حبنا لترابه أيًا كانت خلافاتنا حول حكمه و قادته و غير ذلك، فإننا نعشق كل ذرة من ترابه ونقف مع أي أحد للحفاظ عليها.
قديمًا قالو “نحن لا نحب الوطن لأنه كبير أو غني أو حار، نحن نحب الوطن لأنه وطننا”، فاقرأوا راسائل الثورات بحكمة حكومةً ومعارضة، ستعذرونا حينما كنا نقول ونردد “لا للثورة نعم للتغيير”.
نواصل
عمر الترابي
صحيفة الصحافة