لن أسير في هذه المقالة على منوال منظمة الشفافية العالمية: وان كانت المؤشرات تقود للقول بأن السودان من أعظم الدول في تصنيف هذه المؤسسة مما أكد عندها نتيجة واحدة بأن السودان دولة فاشلة.. بالطبع للمنظمة معاييرها التي ليست بالضرورة منطبقة على الحال السودانية. وان كان يشتم منها البعد السياسي بما هو معروف عند التكييف اللا منطقي في ازدواج المعايرة، والكيل بمكيالين اثنين يتحقق هنا، ولا ينطبق هناك في اوضح صور الفساد والفشل.. فلا يمكن بحال معايرة السودان بالصومال أو العراق ودنهما دول اكثر فساداً وأعمق فشلاً لا يشملها التصنيف عند مثل هذه المنظمات! إذن لا ثقة عندي في تقارير هذه المؤسسات التي تصف نفسها بالمستقلة.. بالنظر الى سجل تمويلها، ومحددات سياساتها التي تفضح نياتها مسبقاً.
لكن همسات المدينة ومجالسها تتحدث عن مظاهر الفساد في البلد، وتتقافز الاتهامات هنا وهناك دون توافر المتحدثين على وثائق دامغة تدين هذا الشخص أو تلك المؤسسة.. بالطبع هناك العديد من مضابط الفساد التي تم حصرها، وجرى التحقيق بشأنها بل ونظرتها المحاكم، ولكنها تعد قليلة بالنظر «لكم» الفساد الموجود، والمنظور والمشاهد!!
الجديد في ملف الفساد الاعتراف الضمني للحكومة بوجود فساد بغض النظر عن «كمه أو كيفه».. ولكن المتفق عليه انه اصبح بائناً وظاهراً، مما يجعل التغاضي عنه أو عن الفاعلين في دوائره امراً غير مقبول.. ويحمد في هذا الصدد لرأس الدولة مبادرته لتكوين مفوضية لمناهضة الفساد في اركان الدولة ودواوينها اياً كان شكل وجوده، ومهما كان الاشخاص الذين يقفون عليه.. والقرار يمكن وصفه بالشجاع لأنه وجد من الجرأة ما يمكن اعتباره اعترافاً بوجود دوائر فساد في أضراب السلطة وقد أتى الوقت لإجراء الحساب، ووقف تغول الفساد على مصالح العباد حتى عُدَّ انفلونزا مزمنة أو بالاصح «مستدامة» حتى إعتاد الناس على وجود المفسدين أواسطهم.. حتى أضحى الفساد ثقافة تروج بغير اسمها مما أدى الى لامبالاة الناس به وبأشخاصه كما هو حال قارون في زمان موسى عليه السلام عندما خرج عليهم في زينته فقال الذين يريدون الحياة الدنيا: «يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون إنه لذو حظ عظيم»، الآية.
وشكوى الناس منه من باب التعيير والتنفير، ويتلازم مع الفساد انتشار المحسوبية والرشوة والواسطة والنتيجة تراجع الآداء، وضعف الخدمة المدنية مما يؤثر سلباً على الناتج القومي، واذكاء روح الطبقية، ويكون المجتمع ما بين غني مطغي وفقر مدقع ولا يقف حد الفساد عند عتبة المال والاقتصاد، بل يتجاوز ذلك كله الى الاخلال بعرى المجتمع، وينشأ عليه الفساد الاخلاقي وفساد تدين الناس وسيادة الغش، واستحلال المحرمات، وظهور الموبقات.
وحالة الفساد لا تخفى على ناظر صحيح النظر اذ يتناقل الناس حالات فساد لا تبدو له نهايات.
وقد ينكر المسؤول المعنى سواء في الحكومة أو الحزب وجود حالات فساد عريض في البلاد، وقد يطالبون بأدلة على ذلك، ولكن قد نجد ان صور الفساد لا تقف عند حالات الاعتداء على المال العام فقط بل تتجاوز ذلك في تعدد الشخص الواحد في أكثر من وظيفة، وقد تجد المسؤول نفسه يتمتع بعضوية عدة مجالس إدارات لشركات ومؤسسات حكومية أو غير حكومية وتتداخل الصلاحيات والمصالح، وهذا النوع «السوبرمان» تتشكل، وتتطوع للتموضع في تقرير مصالح هذه المؤسسة أو تلك من خلال ممارسة النفوذ من خلال الشخصية العامة.. لا بل حتى الوظائف الوسطى والدنيا تتخللها حركة شخص واحد ينتج عنها فساد واضح، ولاشك.
من مشاهد الفساد كذلك احتكار شركات رجال اعمال بعينهم لعطاءات يفترض ان تكون مفتوحة للمنافسة الحرة، وتقوم عليها لجان مؤتمنة تؤدي دورها بحيادية في الاعلان عن العطاءات والمناقصات دون تفضيل شركة بعينها لتنفيذه، ويمكن ضرب المثل تلو المثل على مثل هذا التجاوز، ويتجدد العطاء تلقائياً وفق مقتضيات العقد الذي يبرم بين الجهة المخدمة والمستخدمة.
كذلك تثير شبهات الفساد امتلاك بعض المسؤولين لشركات تعمل في إطار الدوائر الرسمية وشبه الرسمية، وبل واعتراف بعضهم بعمله في السوق بجانب تسنمه لمنصب رسمي وموقع سياسي، ولا ذكر لاقرارات الذمة المنصوص عليها دستوراً للاشخاص الذين يعينون في مناصب دستورية.
وقد ترى ان تجنيب الإيرادات في بعض مؤسسات الدولة يخل بموازنة المالية وقيام اجسام موازية لها ومناهضة لبتر الفساد الذي قد يقع دون قصد أو تعمد في بادئ الأمر.. ولا يخفى ان الرقابة على المال العام من اختصاص وزارة المالية وليس جهازاً سواها، ويقع عليها عبء الجباية والصرف وتوزيع الايرادات.
وعدم العمل بايرادات مضبوطة كتحصيل الأموال بغير «اورنيك 51» وهذا يوقع الاشتباه بهذه الاموال المجباة والمحاسبة فيها لا تحدد بصورة قاطعة لانها بالأصل أموال «مجلبة» لا تصل اليها يد الرقيب، ولا تعرف عنها فرق المالية شيئاً جبايتها وكيفية صرفها.
إطلاق يد المحليات في فرض رسوم غير مقننة وانما يتم تحصيلها بأوامر «محلية» فقط لتحقيق ربط مقدر مسبقاً للإنفاق على أوجه الصرف لديها جعل من امر تحصيل مثل هذه الجبايات مهزلة أو مضحكة فعلام تتحصل المحليات أموالاً من أصحاب الناقلات الصغيرة ذات الثلاث عجلات، وتسمى اعتباطاً «رسوم نفايات»!! أضف لذلك تعدد الجبايات والرسوم الإدارية داخل المنشأة الواحدة ذات الغرض الواحد.. كلها تحصيلات تثير التشكك، ولا يقنع المرء بأنها تحصيلات تؤخذ حسب القانون، وعند الطرف الآخر تجد انتشار اشكال الرشى بأنواعها لتستوفي رسوماً كان يفترض بها ان تذهب لبيت المال «المالية».
ولو كانت الحكومة تقوم على إرادة قوية لمحاربة الفساد فان المفوضية المقترحة عليها مهام جسام وتحتاج من الصلاحيات التي لا تتقيد باية وصاية أو تنطوي على تجاوز اشخاص دون اشخاص مهما علت مراتبهم، ولو ان المفوضية رئاسية وتقوم عليها شخصية مستقلة ومشهود لها بالنزاهة والقوة اللازمة لإجراء تحرٍ شفيف ودقيق ستنجح في لجم غول الفساد ان شاء الله.
صحيفة الرأي العام