** كلمة الوحدة ، التي لم تتكرر كثيرا ، كانت بمثابة عفو الخاطر في الخطابين المهمين ، أي بدت وكأنها مجرد « كلمة احتفائية » مراد بها احترام وتقدير « مناسبة الحفل » .. ولكن مفردة الانفصال ، التي تكررت كثيرا ، كانت تبدو أصيلة ، وكأنها هي « المناسبة ذاتها » ..بل تناول حديثهما علاقة الجنوب والشمال في مرحلة ما بعد « الانفصال » .. واستفاضا في الحديث عن هذه العلاقة المرتقبة بذكر بعض التفاصيل على سبيل المثال لا الحصر ، حتى ظننت بأن الجنوب قرر مصيره و اختار الانفصال مصيرا .. ومن حديث الرئيس : « سنكون نحن في المؤتمر الوطني أول الناس التزاما وترحيبا واعترافا لاحترام قرار أبناء الجنوب ، كما سنكون أول من يعترف بقيام الدولة » ..ومن حديث النائب الأول : « أتمنى أن ينعم الجنوب في حال الانفصال بالأمن والاستقرار والعلاقات التي لن تنقطع مع الشمال ، وعلى المجتمع الدولي أن يعترف بخيار الجنوبيين » ..!!
** نعم ، كثيرا ما تحدث الشريكان عن الوحدة والانفصال ، في مناسبات مختلفة ، ولكن اما بلغة الدبلوماسية التي تظهر خلاف ماتبطن أو بلغة الأماني والأحلام التي لاتتناسب مع واقع الحال .. بيد أن حديثهما الأخير باستاد يامبيو ، يختلف عن الأحاديث والخطب السابقة ، بحيث خرج للناس « واضحا » ، لا عن الانفصال فقط ، بل عن مرحلة ما وراء الانفصال أيضا.. بلا أية دبلوماسية ناعمة أو أماني سرمدية ، أي كان عزفا مباشرا على الوتر الحساس ..وهذا هو المطلوب في هذه المرحلة التي لم تعد تبعد عن صناديق الاستفتاء الا بمسافة زمنية تقدر بثلاثمائة يوم أو أقل .. وما لم أكن مخطئا في الرصد ، فان الدكتور غازي صلاح الدين هو أول المنبهين – في دوائر صنع القرار – لأهمية التفكير المبكر لمرحلة ما بعد الانفصال ، وذلك بوضع حلول آنية لكل المشاكل المرتقبة ، عملا بالنهج القويم القائل للفرد والمجتمع والأنظمة : الوقاية خير من العلاج ..!!
** وكأني تلمست بعض الوقاية في خطابي الرئيس والنائب الأول ..والله أعلم .. حيث حمل خطابهما بعض ملامح تلك الوقاية ، مثل : لجنة الحدود وتقريرها النهائي ، المسيرية ومراعي ما وراء حدود محكمة لاهاي ، التواصل الاجتماعي والسياسي .. بل قال الفريق سلفا نصا : نفط الجنوب سيظل يصدر عبر الشمال حتى اذا انفصل الاقليم ..هكذا كان حديث الشريكين مباشرا عما سيحدث حين يصبح الانفصال مصيرا للجنوب ..وهذا مايعرف في الوسط السياسي حاليا ب « الانفصال الجاذب » ..مصطلح جديد فرض نفسه عن جدارة ، واستقر في ألسنة الساسة مستغلا تشاكس الشريكين ثم وهن ارادة الشريكين عن نشر ثقافة ومناخ مصطلح نيفاشا القديم « الوحدة الجاذبة » .. !!
** نعم ، انها الحقيقة المؤلمة التي لامفر منها ، « حلم الانفصال الجاذب » حل محل « حلم الوحدة الجاذبة » ..ويجب مواجهة تلك الحقيقة بالعقول وتدابيرها وليست بالقلوب واشتياقاتها ..وما تقزمت آمال الوحدة الجاذبة في مسيرة الخمس سنوات ، الا لأنها كانت فقط أشعارا في دفاتر الشعراء وأشواقا في قلوب العشاق .. أي : لم تبارح الوحدة الجاذبة دفتر نيفاشا الي أرض الواقع ، بحيث تصبح كائنا يمشى على أرض البلد بسيقان الارادة السياسية ، وليست بخطب ساستها ..والاتكاءة على الخطب فقط أو التواكل عليها هي التي طردت تلك الوحدة الجاذبة من مخيلة العامة – شمالا وجنوبا – لتغذيها بثقافة « الانفصال الجاذب » .. !!
** المهم .. كما تحدث صناع القرار في الخمس سنوات الفائتة عن الوحدة الجاذبة ، فليتحدثوا في الثلاثمائة يوم القادمة عن الانفصال الجاذب أيضا ، بكشف ملامحه ، أو كما فعل الرئيس ونائبه الأول بيامبيو ..عفوا .. الحديث وحده لايكفي ، ولو كان يكفي لما حل مناخ الانفصال محل مناخ الوحدة في أذهان الناس وأمزجتهم ..وعليه ، فليتبعوا حديثهم بالعمل للانفصال الجاذب.. فالمفاجأة بالوحدة لن تضر الشمال والجنوب ، ولكن الخطر هو : أن يفاجئهما الانفصال ، ثم يصبح حال سلام نيفاشا كما حال أبوزيد في حكمته الشعبية المعروفة ب ..« كأنك ماغزيت » …!!
اليكم ..الصحافة-العدد 5945
tahersati@hotmail.com