جامعة جوبا.. عندما تُدار الجامعة بقرار سياسي

مدة زمنية تجاوزت الساعة إلى نصفها ونحن نقطع طريقنا من قلب الخرطوم قاصدين جامعة جوبا الواقعة في منطقة الكدرو «بحري/ شرق النيل». وما ان وصلنا الى الجامعة حتى بدت لنا مجموعة من مباني الزنك «الجملونات» التي تم انشاؤها بطريقة متراصة، فعلى الجهة اليمنى لمدخل الجامعة تقع كلية الاقتصاد بمكاتبها الادارية، وعلى بعد خطوات منها كلية الآداب والمكتبة والفصول الدراسية، وعلى مقربة منها كانت إدارة شؤون الطلاب.
6267 مساحات شاسعة ومبانٍ من الزنك كان هذا ما يميزها من مؤسسات التعليم الأخرى، ولا تمنحك أدنى احساس بأنك داخل مؤسسة تعليمية، أكثر مما قد ترتبط في ذهنك بأنك داخل مباني أحد المصانع، لاسيما أنها قامت على مبدأ الجامعة المؤقتة بفهم انها لا بد سيتم ترحيلها جنوباً إلى جوبا، ولكن وسط كل هذا وعلى مسافة ليست بعيدة من مدخل الجامعة الرئيسي وعلى الجهة اليسرى، يوجد مبنى من الطوب والحجر لعله الوحيد فيها.. وتجده متربعاً في صدرها ليحوى في قلبه بعض المكاتب الادارية التي كان من ضمنها مكاتب الشؤون العلمية للجامعة، ومكاتب العميد ونائبه، هذا بالاضافة إلى مكتب عميد كلية الهندسة ومكتب مسجل الكلية وغيرها من المكاتب الادارية. ويبدو من سمات ذلك المبنى انه لم يتجاوز الزمان..
مجموعة من الطلاب شماليون وجنوبيون كانوا منتشرين بصورة مبعثرة على ارجاء الجامعة التي تكاد تكون خالية، وهذا ما عرفنا سببه لاحقاً بأن الطلاب قد انتهى بعضهم من فترة الامتحانات، بينما يستعد البعض الآخر لامتحانات العام الدراسي النهائي، ربما لوجود الجامعة بالشمال.
فجامعة جوبا بدأت أولى خطوات انشائها بعد اتفاقية أديس أبابا بواسطة حكومة الاقليم الجنوبي عام 1973م، وكانت فكرة انشائها آنذاك هي فكرة لكلية تدريب عليا، وأصدر رئيس الجمهورية وقتها الرئيس جعفر محمد نميري قرار إنشاء كليتي الموارد الطبيعية والاقتصاد والدراسات الاجتماعية، وكان ذلك في عام 1975م. وهي من الجامعات التي نزحت نتيجة لظروف الحرب لتتمدد في الشمال وتنشئ كليات لم تكن ضمن كليات الجامعة عند نزوحها، ولكن بعد توقيع اتفاق السلام الشامل في 2005م واعلان انتهاء الحرب وبداية عودة الجنوبيين إلى ديارهم، أعلن وزير التعليم العالي ترحيل كل الجامعات الجنوبية إلى ولاياتها.
وما بين التوجس والرهبة والمصير المجهول والظروف الأمنية بالجنوب وما ستؤول إليه حال البلاد، يقف الطلاب الشماليون أمام حيرة من أمرهم، وجدناها بادية في أعين سماهر حسين قبل حديثها الذي أكدت من خلاله انها في حالة ترحيل كليتها للجنوب ستقوم بتجميد عامها الدراسي إلى حين تتضح الصورة، فإذا بدت الأمور مستقرة عندها ستواصل، لأنها لا ترغب في الانتقال إلى جامعة أخرى، أما اذا ما بدا غير ذلك فستلجأ إلى سحب أوراقها والالتحاق بجامعة شمالية أخرى.
ولكن جاء رأي خالد طالب الهندسة بالسنة النهائية مغايراً لما ذهبت إليه سماهر، حين قال: لا اعتقد ان الامر يتعدى مرحلة انتقال مكاني، فأبناء الجنوب ليسوا بالغرباء عنا، وقد عاصرناهم بالجامعة لمدة خمس سنوات متتالية، والأمر لا يتعدى تغيير الأرض والمكان، وقد صدر قرار بترحيل الجامعة حتى طلاب المستوى الخامس إلى جوبا. وأنا لا أرى في الامر أي حرج، انما هي أشهر ونعود بعدها للشمال.
وكانت هناك آراء مختلفة حملها أبناء الشمال، بينما كان أبناء الجنوب في أتم استعدادهم إلى اكمال مراحلهم الدراسية في جوبا المدينة.
وعن أمر ترحيل الجامعة للجنوب كان وزير التعليم العالي الدكتور بيتر ادوك، قد أكد في حديثه لبرنامج الطاولة المستديرة على «راديو مرايا» أن العمل جارٍ لترحيل جميع كليات جامعات جوبا وبحر الغزال وأعالي النيل إلى الجنوب قبل نهاية هذا عام 2010م، كما تحدث عن الصعوبات التي تواجه كليات جامعة أعالي النيل وإمكانية ترحيلها إلى مدينة ملكال، نسبة لضعف البنيات التحتية بالمدينة.
ولكن في جوبا كان الوضع مختلف تماماً، مما هيأ مساحة للعودة التدريجية للجامعة بدأت بترحيل كلياتها العلمية، أو كما قالت لنا مسجل كلية الهندسة والعمارة بالجامعة انتصار ناصر الفضل التي ابتدرت حديثها إلينا من خلال سرد تسلسل تاريخي مقتضب، عن ان الجامعة في الاصل هي جامعة قومية نزحت شمالاً في ظروف الحرب الاهلية. وأضافت بأن كلية الهندسة كانت ضمن الكليات التي أنشئت في الخرطوم بعد نزوح الجامعة، وان أول دفعة التحقت بها كانت في عام 1997م، وأن الكلية قد خرَّجت حتى الآن ست دفعات. وتقول انتصار انه في ظل اتفاقية السلام الشامل وعودة الجامعات الجنوبية بدأت عودة الجامعة وبطريقة ممرحلة، بعد ان صدر قرار بترحيل الكليات العلمية أولاً. وبالفعل في عام 2007م تم تجفيف كليات الطب والهندسة بالشمال لتبدأ الدراسة بالجنوب، وحالياً توجد أربعة مستويات منهم بالجنوب عدا المستوى الخامس الذي مازال في مقر الجامعة في الشمال، وفي النصف الأخير من العام الحالي صدر قرار بترحيل الجامعة إلى الجنوب ونقلها إلى جوبا بكامل اداراتها والورش والمعامل والمعدات، بل حتى طلاب المستوى الخامس الذين جلسوا للامتحانات ولم يتبق لهم إلا أمر بحوث التخرج صدر أمر بأن يكملوا عامهم الدراسي الحالي في جوبا.
وكان في مارس السابق قد صدر قرار بأن تنتقل الادارة العليا بالكلية من العميد والمسجل ولجنة الامتحانات إلى جوبا، باعتبار أن أكثر من 60% من الوجود الفعلي للجامعة أصبح في الجنوب، وفعلاً تم تنفيذ القرار، وظل العميد موجوداً في جوبا بصورة دائمة، ومعه جزء كبير من الكادر الإداري.
أما بالنسبة لطلاب كلية الهندسة فنجد ان 70% منهم طلاب شماليون والجنوبيون لا يتعدون نسبة الـ30%، ولكن مع هذا لم يتم توفيق اوضاعهم، ولم يصدر أي قرار بشأنهم بخلاف القرار الصادر في نهاية شهر نوفمبر الماضي بأن يتم في نهاية شهر ديسمبر الحالي ترحيل الكادر الاداري الموجود بالخرطوم إلى جوبا، بما فيهم الطلاب، في حين ان كلية الهندسة لا يوجد لها طلاب بالشمال عدا طلاب المستوى الخامس. وبحسب القرار الصادر عن مدير الجامعة فلا يوجد خيار لهم، ففي الوقت الذي جلسوا فيه لآخر امتحان بتاريخ 26 نوفمبر وهناك بحوث ومن المقرر أن ينتهي العام الدراسي في 26 ديسمبر ليبدأ العام الجديد في مارس 2011م، ولكن بعد صور هذا القرار لا توجد رؤية واضحة للقرار، ولا نعرف الوضع، إلا ان الامر البين هو ان ترحيل الجامعة غير مرهون بالوضع السياسي أو المستقبلي للبلاد في حال الوحدة أو الانفصال، وان الترحيل جاء بعد هدوء الأوضاع الأمنية وتوقف الحرب، وان ترحيل الكليات العلمية جاء من منظور مساهمتها في تطور المنطقة وترقية المجتمع هناك، لذا وقع الاختيار على كليات الهندسة والموارد والطب، وهي كليات ظلت بالجنوب فترة أربع سنوات، ومن ضمن طلابها طلاب شماليون، وعلى ما يبدو فإن دفعة المستوى الخامس سترحل وفق القرار الاداري الجديد، والشيء الذي لا توجد حوله رؤية واضحة، هو ما إذا وقع الانفصال ماذا سيكون مصير طلاب الشمال بالجامعة؟ ولعل عدم اتضاح الرؤية هذا كان سبباً في ان تقل نسبة التقديم، بل وحتى القبول من طلاب الشمال للجامعة منذ 2005م تاريخ توقيع سلام نيفاشا حتى في كلية الهندسة التي تعتبر من الكليات المرغوبة لدى طلاب الشهادة العربية، ولكن هناك طلاب اختاروا الدراسة في الجنوب، وحتى الآن لم تأتنا أية اخبار بتعرضهم لمشكلات ومضايقات.
وحالياً كل الادارات العليا للكليات موجودة في جوبا، اما طلاب المستوى الخامس هندسة وفي ظل هذا الوضع الضبابي فلم يأت طالب بطلب تحويل الى جامعة أخرى بالشمال، ولكن قد نرجع ذلك إلى انهم مازالوا يستبعدون ترجمة هذا القرار على أرض الواقع، خاصة أن عامهم الدراسي لم يتبق منه إلا القليل، وان فترة تنفيذ القرار هي ثلاثة أشهر فقط.. وإن كان في غير الظروف الاستثنائية هذه يحق للطالب الانتقال إلى أية جامعة أخرى اذا ما قدم لنا طلب موافقة مبدئية من الجامعة التي يود الالتحاق بها.
وفي ختام حديث مسجل كلية الهندسة انتصار ناصر، قالت ان الكليات التي عادت إلى الجنوب هي كلية التربية وكلية دراسات المجتمع والتنمية الريفية وكلية العلوم والموارد الطبيعية وكلية الطب، بالاضافة إلى كلية الهندسة، أما كليات الآداب والقانون وكلية العلوم الادارية وكلية الاقتصاد، فقد اكتفت الادارة بتجميد القبول لها لهذا العام، ولم يصدر قرار حتى الآن بأمرها.
وعندما كانت كلية الاقتصاد ضمن الكليات التي لم يحسم أمرها بصورة نهائية حتى الآن، فقد كان لنا حديث مع نائب عميد كليتها الدكتور معتصم ابراهيم مالك، الذي ابتدر حديثه معنا بالقول بأن كلية الاقتصاد من ضمن الكليات التي مازالت في دكة الانتظار لترحيلها إلى الجنوب. وقال على الرغم من أن هنالك توجيهات صدرت عن ادارة الجامعة بتقدير تكاليف ترحيل الكادر البشري والمعدات، وبالفعل تم رفع ذلك الأمر إلى الادارة، وجاء ذلك مرفقاً بضرورة الأخذ في الاعتبار أن قرار ادارة الجامعة المسبق يقضي بتنظيم برنامج العودة من خلال العودة التدريجية إلى مقر الجامعة لجوبا بنهاية هذا عام 2010م، فإن هذا على المستوى النظري، أما على أرض الواقع وفي أمر ترحيل الكادر البشري فقد وصل توجيه من قبل حكومة الجنوب وتحديداً من وزارة التعليم العالي بالجنوب، بتوجيه عرض للموظفين والأساتذة والعمال بالترحيل المجاني للجنوب على أساس طوعي، وهذا الأمر جاء مقتصراً على أبناء الجنوب فقط.
وحتى اللحظة وفي كلية الاقتصاد المكونة من أربع شعب لم يتم نقل أي أثاث منها، وادارة الجامعة أصدرت أخيراً قرارها القاضي بعدم قبول طلاب للكليات التطبيقية، منها الاقتصاد والآداب والقانون والعلوم الادارية هذا العام، ولكن صدر قرارها هذا متأخراً بعد انتهاء التقديم للجامعات. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا بالحاح هو ما مصير الطلاب الذين تقدموا لكليات الجامعة هذا العام؟ وماذا فعلت ادارة القبول بشأنهم؟!!
وعن نسبة الطلاب الجنوبيين بالكلية يقول د. معتصم إن 65 ــ70% من طلاب الكلية من أبناء الجنوب، وأن النسبة الأكبر من الطلاب جنوبيون، ويقول معلقاً إنه تلاحظ في فترة ما بعد توقيع اتفاق السلام في 2005م ضعف نسبة الطلاب الشماليين المتقدمين للدراسة بالجامعة ككل، وهذا ما زاد من نسبة أبناء الجنوب الطلاب بها، كما انه وفي جانب آخر تقدم عدد من أبناء الشمال بطلبات نقلهم وتحويلهم إلى جامعات شمالية أخرى، وفي الاتجاه الموازي لذلك تماماً شهدت الكلية تقديم طلبات للالتحاق بها من قبل أبناء الجنوب الذين كانوا يدرسون في جامعات الشمال، ومنهم طلاب من جامعة السودان وجامعة النيلين تمهيداً منهم للعودة للجنوب.
وفي الوقت الذي حزم فيه أبناء الجنوب حقائبهم مصحوبة بأحلام العودة إلى أرض الأجداد ومع اقتراب موعد الاستفتاء، غادر للجنوب حتى الطلاب الذين لم يكملوا عامهم الدراسي، فمن جامعة جوبا لوحدها غادر خمسمائة طالب جنوبي إلى الجنوب. وبحسب ما أفادنا به مصدر مسؤول بالجامعة فإن مباني الجامعة بكاملها تم انشاؤها باعتبار الفكرة المؤقتة للجامعة المرتبط وجودها بظروف الحرب، وإنها استمرت على حالها إلى أن جاءت المرحلة الثانية لها التي كانت فيها الإدارة شمالية، ورأت ضرورة تطوير مباني الجامعة من الزنك والحديد إلى المباني الثابتة بالطوب والحجر، وذلك من خلال وجهة نظر مستقبلية بامكانية ان يكون مقرها نواةً لجامعة أخرى أو فرعاً مستقبلياً للجامعة بعد اكتمال اجراءات ترحيلها. وإلى جانب الكليات الأربع التي لم يحسم أمر ترحيلها بعد، هناك حالة من عدم وضوح الرؤية للشماليين بالجامعة من الأساتذة والعاملين، فلم تصدر أية اجراءات إدارية في أمرهم حتى الآن، والقرارات والواقع السياسي الراهن أخذ يلقى بظلاله وبتأثير سلبي على الجامعة.
ففي الوقت الذي نجد فيه أن «500» طالب جنوبي بالجامعة ومن كلياتها المختلفة منهم «90» طالباً بكلية الاقتصاد غادروا إلى الجنوب قبيل انطلاقة فترة الامتحانات بقليل، وتجرى هذه الايام عمليات فرز أسمائهم ليتم اجلاسهم مع طلاب البدائل، فبحسب لوائح الجامعة من المفترض أن يجلسوا مع طلاب الملاحق، ولكن التدخل السياسي من قبل حكومة الجنوب في ادارة الجامعة جاء بقرار ينص على أن تدرج أسماء هؤلاء الطلاب تحت قائمة الطلاب الممتحنين للبدائل، مع أن غيابهم لم يكن بإذن مسبق، في الوقت الذي نجد فيه أن أغلب الاداريين بالجامعة شماليون، إذ تتراوح نسبتهم ما بين 60ــ70% من جملة العاملين بالجامعة، ففي كلية الاقتصاد يوجد فقط ثلاثة اداريين جنوبيين من جملة أربعة عشر اداريا، وهناك كليات علمية لا يوجد فيها ولا إداري جنوبي واحد، منها كلية العلوم والهندسة والطب والكمبيوتر، هذا بالإضافة إلى كلية الآداب.
وفي مكتب عميد شؤون الطلاب الذي كان ضمن مباني الزنك والحديد، التقينا بالعميد ولكنه رفض الحديث في أي أمر بخصوص الجامعة ما لم تأته توجيهات مباشرة من إدارة الجامعة ومكتبها التنفيذي.
لتظل قضية الشماليين في جامعة جوبا بين نيران الرحيل جنوباً وبين البقاء في فلك المجهول في الشمال، وهل ادارة الجامعة متمسكة بهم بوصفهم أساتذة وعمالاً، أم انها ستكتفي بأبناء الجنوب وتكمل نقصها من الموظفين باستقطاب أساتذة من الخارج لسد النقص في هيئة التدريس بالجامعة، كما أعلن وزير التعليم العالي عن ذلك مسبقاً؟

الصحافة
تحقيق: تهاني عثمان

Exit mobile version