حوار مطول مع الاستاذ محجوب كرار .. الطمبور…. الآلة والتاريخ

زاد المبدعين .. كتاب جديد تنشره دار «مدارك»، وهو حوار مطول مع الاستاذ والمؤرخ الدارس للشعر الشعبي عند الشايقية.. والحوار يكشف خلفية ثقافية متكاملة تسلط الضوء على الشعر الشعبي بعامة ومكانه من الثقافة القومية، وهنا يكشف لنا هذا الحوار المطول والذي ننشره على مدى حلقات متصلة، خصوصية التنوع الثقافي السوداني في مستواه القومي وفي ذات الوقت يقف الحوار على تميز ثقافة الشايقية بين قبائل السودان الأخرى.
«المحرر»
هناك اهتمام كبير بالرقص مع الغناء على إيقاع الدليب والطنبور حيث ينتظر المصفِّقون/الشيَّالون أن ينال كل منهم، لِقاءَ بذله في حلقة الرقص، شبالاً من الراقصة إذ تميل وتطيح أو ترمي بشعرها في اتجاهه كتحيّة يتلقاها بيده أو كتفه. وعلى سبيل المثال هناك شاعر يقول:
قَدِلْتِك سمحه يا روحي المهَل زين
أقيفي شويّة (يا تومتي)العمر دِين
ثم يقول لها:
حلاتِك يا الزِلال ناداك دِلِيبِِك
وقفتِ، النور سطع وشمينا طيبك
حياك ضاراكي قلنا العين تصيبِك
حياك ضاراكي، كمان غطَّاك سَبِيبك
قلت لبعض الاصدقاء أن سيدنا داؤود كان أحسن من يجيد عزف الطنبور، قلت لهم أنه يجيد العزف أكثر من النعام آدم. الجماعة طبعاً تجهّموا ماعرفوا هل يدافعوا عن سيدنا داؤود أم ماذا يفعلون؟ قلت لهم العندو شك في الموضوع دا أنا عندي مزامير داؤود، والذي هو شعر لسيدنا داؤود والمزامير ملوَّنة. قلت لهم أن الطنبور بتاعنا دا ذاتو مرسوم، وحتى كمان العُقَد البلفُّوها دي موجودة فيهو(سأله إبنه جميل قائلاً: مكتوب طنبور عديل؟، أم مكتوب اسم خاص بالطنبور؟ ربابة؟)
واصل الاستاذ محجوب: حاجة زي دي، لكن الصورة ذاتها هي البِتورِّيك، الصورة ذاتا فيها حتى العُقَد البنلِفَّهُمْ عشان نوقّف بهم الطنبور. كان داؤود يدخل به المحراب. عندهم المحراب زي الجامع، الجامع مبني على هيئة المحراب، السيناغوغ بتاع اليهود، الجامع الخرطة بتاعته زي السيناغوغ بتاع اليهود.
محمد علي نقد: الطنبور دا مصنوع من شنو؟ هل صحيح إنه مصنوع من جمجمة حيوان؟
الاستاذ محجوب: لا. في أنواع مختلفة، لكن القاعدة هي استخدام قدح أُم دِرِيقة. أختيار قدح أُم دريقة جاء من أنه أصم والطنبور عايز حاجة vibrant ، حاجة فيها اهتزاز. طبعاً، أنسب حاجة هي قدح الدَبْكَر أو المرّات، شجر إسمه شجر المُر في كردفان. والمرّه دي شجرها خفيف وفيهو post مَسَان، فالحاجتين ديل يصنع منهما أهم شيء، لكن يمكن تجده عند الجنوبيّين بي قرعه، البوكس دا، صندوقه دا، تلقاه بي قرعة، تلقاه بي كوريّة، البعض يعمله بي بتاعة الكوكونت ديك وذلك عند بعض القبائل الصوماليّة. لكن دي مُش القاعدة. القاعدة هي القدح دا بَسْ، القدح بتاع الدَبْكَر، شجر الدبكر شجر في كردفان..أم دبيكرات، أم دبيكرات المات فيها الخليفة عبدالله. هذا القدح موجود وكان عندنا الأقداح هذه يعلِّقوها (يكون سيداحمد دا عارفها)، دي قداحة الدبكر. أنا في سفرتي الفاتت لِي كردفان جبت معايا 15 قدح أهديتهم لي ناس. قِدَاحه بي حجم الطنبور. كنت اشتريت القدح الواحد بِي 15 جنيه على ما أظن. شفت كيف؟. فالطنبور عندو القدح دا.
سأل أحد الحضور قائلاً: القدح دا عند الشايقيّة مافي؟
محجوب: لا. الشايقية ما عندهم. هم يجيبوه من هناك. الشايقيّة ما عندهم شجر فيهو الأشياء دي. وحتى الدليب دا، الجَايي منه كلمة الدليب بتاعتهم دي، بيتعمل من شجر الدليب وهو نوع من شجر الدوم. الاصل بتاعو شايلو في اسمه(الدليب)….حلاتك يا الزلال ناداك دليبك. حتى الدُقشه بتاعة الخشب دي، دي من شجر الدليب، عشان كِدا سمُّو عليها آلة الايقاع كلّها. فالطمبور إنت سألت منه (يوجه الاستاذ محجوب حديثه إلى محمد علي نقد) بمعنى فيه شنو؟ فيه القدح، بعدين فيه خشبتين كِدا عِيدانُمْ منفرده يطلعوا بي زاوية منفرجة وعندهم موصِّل فوق مَكْسِي بي جلد والخشبتين يمسكهما الجلد. الجلد ذاته دائر حول القدح يشدّهما، وعنده سطح تطلع منّو الخشبتين ديل. وبعدين الصانع يعرف إنه لازم يعمل بعض الأخرام عشان تأخذ منّه الحدّة أو يشيلن منّه الغَفِل عشان يبقى صوته صادح، شفت كيف؟. بعد كِدا ينشِّفوا(يجفِّفوا) الخشبات ديل جُوّاهو ويختوا ليهن الخشب البي فوق ويجيبوا السلك داخل. وفي العادة، في هذه الايام، يعملوه من السويتش بتاع السيارة. السويتش فيه أسلاك كثيرة لكن البعض، زي محمد جبارة، بيعملوه من وتر الجيتار. لكن عايز زول يتحكّم فيه كويّس زي محمد جبارة، أو من السلك الرفيع دا وبيتعمل من البوري أو السويتش بتاع المواطر. تكون فيه خمس سلكايات مربوط في نهايتها نوع من القماش عشان يجرّوها ويثبتوها، تكون في سلكاية مفضِّله يثبِّتوا بيها قطعة القماش دي المربوط فيها السلك عشان عندما يشدُّوه ما يرجع. وكل سلكاية لازم يثبتوها، وفي الآخر يلفّوا فيها القصة دي وبعدين دايرَالا ضبط. طبعاً السلكايات دي معمولة ولها أسماء: قرار، القرار دي تكون في النص. يطلع بي اللحن وينزل تاني للقرار، يعني فيه كل الشروط، أصلها آلة عالميّة مش بتاعة السودان فقط. كانت من الآلات الموسيقيّة القديمة المعروفة. أنا ذكرتها لك إنها واردة في مزامير سيدنا داؤود ذاته. هي آلة فارسيّة أساسًا، ودخلت السودان في القرن الثاني قبل الميلاد. دخلت بلاد النوبة قبل 2300 سنة. والمعلومات دي موجودة في دائرة المعارف البريطانيّة الجزء الثاني. هي دخلت بلاد النوبة، والنوبة عدّلوا فيها. عملوا ليها قدح. الشكل الجات بيهو من هناك كان بدون قدح، وكان عندها سلكة التوظيف بتاعها مختلف، وكان عندها أسماء مختلفة كالوسطى والسبابة الخ، عدّلوها وعملوا لها صوت جديد يتفق مع التصويت Phonetics عند النوبة. ومكثت الآلة دي في بلاد النوبة، من أسوان حتى الشلال الرابع في أمري، كل هذا الزمن.
من أين أتى إيقاع غناء الشايقيّة؟
الناس البيغنّوا الغناء السوداني، وأنا هنا أتحدث عن سؤالك عن من أين أتى إيقاع الشايقيّة، وعلى سبيل المثال أحمد زاهر، قال حينما سألناه عن الإيقاع في أغنية بلادي بلادي اللي بيغنوها ناس الحامداب، قال إن إيقاعهم دا إيقاع أوكسترا، وطبعا بيقصد بالأوكسترا إن الأُوكسترا كلاسيك، وأن إيقاعها دا منبثق من التاريخ. يعني ما فيه توليفة. لكن أنا بقول إن إيقاع الشايقيّة والبديريّة، أي الإطار الثقافي الذي حددناه في حديثنا أمس، لا أقصد الشايقيّة كقبيلة، وإنما أعني هيئة من البشر، أقصد إطار كِدا ….مكان به ثقافة، فإيقاعهم هذا أعتقد أنه موروث عن النوبة القدماء. فالشايقيّة، سواء أتوا من مكان آخر أو تدجّنوا، فإن معظم ثقافتهم مأخوذة من النوبيين الأصليين أهل البلد. يعني لو سمعت إيقاعات الدناقلة والسكوت والمحس في أصولها تجدها تشبه إيقاعات الشايقيّة، لكنها بطيئة قليلاً، ربما حسب طريقة تناولهم للحياة وحسب إيقاعهم. الشايقيّة قد يكونوا سريعين شويّة، إيقاعهم سريع في الحياة، تجدهم أسرع لكن لو أخذت إيقاعهم وأبطأت به قليلاً تجده متمازج.، فإيقاعهم هذا مبتكر وعشان كِده أنا أحس أن فيه روح التراث الحقيقيّة. بعدين، حين ننظر إلى دلوكة الخرطوم دي تستطيع أن تقول أنها نشأت نتيجة ظروف خاصة بالعمل لكن ليس ثمة جذور ضاربة خلفها. أما إيقاع الشايقيّة فميزته أنه لو أخذناه كنموذج يستطيع أن يفسر لنا كيف كانت الفنون القديمة. والرقصة بتاعتهم لا يوجد في السودان كله ما يشابهها سوى رقص المحس أو الدناقلة، لكن هي أيضاً أسرع، والسرعة الايقاعيّة أعتقد أنها من التأثر بالثقافة العربية فهي ثقافة تتميّز بالحركة والشعر العربي ببحوره المتعدِّدة يتميّز بحركة. استخدم الشايقيّة الطنبور. الطنبور يعزفه الرواويس (قادة المراكب)، وهو بتاع المحس وبتاع الدناقلة. عزف الرواويس للطنبور مشهور جداً. به بُطء، والشايقيّة بسبب إيقاعهم السريع في الحياة يعزفوا بشكل أسرع.. ولأن إيقاعات الشعر العربي متحركة أكثر فإنها تحتاج لما يلازمها من إيقاع أسرع لذلك أحدثوا لإيقاع الطمبور نوعاً من السرعة فتولدت لديهم تركيبتهم الخاصة في الطمبور. والطمبور بالطبع لا ينتمي في الأصل إلى الشايقيّة إذ ليس لهم طمبور في تاريخهم. هم لم يأتوا بهذه الفنون والرقصة بتاعتهم دي هي رقصة نوبيّة. أمس تحدثت لكم عن رقصة تنقسي. البت التنقسيّة تضع على صدرها َمَشَاهَرَه وحينما ترقص تتراقص وتتقافز المشاهره على صدرها فتحفظ لها الإيقاع. أعني كل الأشياء دي أخذوها من النوبة لكن منحوها تعبيراً خاصاً بهم. لذلك أنا أعتقد أن الشايقيّة لهم فضل كبير في إحياء تراث النوبة الذي كاد أن يندثر، وهو تراث قديم جداً يمتد لآلاف السنين. لقد ساهم الشايقيّة في إحياء تراث النوبة وإدخاله إلى تيار اللغة العربية الذي كان تياراً عالميّاً. أعني فتح الأبواب أمامه بدلاً عن أن يكون محليّاً وأكثر عرضة للفناء كالفنون المندثرة. ولأن الشايقيّة يتحدثون العربيّة والعربيّة بحرها واسع فأخذوا تراث النوبة من كلمات دخلت لغتهم أو إيقاعات أو فنون يدويّة كالساقيّة أو طريقة الزراعة النوبيّة. عرب الجزيرة العربيّة لا يعرفون الزراعة بمواسمها وبتقاليدها وثقافتها. الشايقيّة أخذوا حاجات النوبة دي وأدخلوها في مجرى الثقافة العربيّة فصارت شيئاً آخر. أمس قلت لك ايضاً ان الجماعة دفعوا قروش عشان يترجموا شعر السر عثمان قالوا نقدمه للحصول على جائزة نوبل. دا فيه كثير من الصور النوبيّة. شعراء الشايقيّة صاروا يتصوروا بثقافة النوبة لأن الساقية نوبيّة. الإطار الاقتصادي الذي تعيش فيه إذا كان إطار ثقافة ثانية فإنك تتدجن به. الآن الشعر الذي يقول به ناس محمد العبيد سيداحمد:
يجي أحمد للفطور شايلُّو أشميق
يفسِّخ ويمشي مالي جيوبو دِفِيق
والبيت الهناك ساوِيلو أرنِيق
دي كلها كلمات نوبيّة محفوظة في العاميّة الشايقيّة. الشايقية عارفين أنو هذا اسمه أرنِيق لكن لا يعرفوا مرجعيّة التسمية. المهم الكلمات حُفظت.، لذلك فإن هذا الإيقاع الذي سألت أنت عن مصدره هو إيقاع نوبي. النوبة ثقافتهم قديمة ويمكن تكون ملتقية بثقافة الدينكا وغيرهم إذ كان هناك تداخل قبل أن تتمايز البيئات ويلعب اختلاف الثقافات دوره في التفريق بين الناس. الثقافة تفرِّق بين الناس. طريقة حياتهم هي التي تفرق بينهم. قبل أن يأتي العرب للسودان ويُدخِلوا الإسلام وما به من حرام وحلال تحدث فوارق بين الناس كان الناس مندمجين. يعني جبال النوبة دي الآن تدرس فيها ثقافة تشبه ثقافة النوبيين كالمحس مثلاً. وحتى هناك كلمات متشابهة بين لغاتهم. في العهود القديمة كان هناك تداخل. لذلك فإن هذا الإيقاع يحتمل أن يكون أفريقي صميم في مرجعيّته الأخيرة. لكن الآن لن تجد شبيهاً له. طبعاً هناك مفردات متشابهة لإيقاع الشايقيّة في نقارة الدينكا ونقارة النوير. هذه المفردات تتجلى في الخَلْفه وغيرها، وطبعاً النوبة بتاعينا ديل إيقاعهم بطئ لكنه الإيقاع نفسه. إذن نحن إذا قلنا من أين جاء إيقاع الشايقيّة هذا نقول جاء من الثقافة النوبيّة القديمة. وبذلك تجد إجابة للسؤال. العرب عندهم الدف، الطار، وهو طبعاً مختلف. إيقاعهم شديد الاختلاف وشديد التركيب.

حاوره بمدينة مانشستر وحرر اللقاء: سيد أحمد علي بلال .. المقدمة: الأستاذ جعفر عبد المطلب
الراي العام

Exit mobile version