أمن المعلومات والأمن القومي

[ALIGN=CENTER]أمن المعلومات والأمن القومي[/ALIGN] مع المضي قدما في بناء مجتمع المعلومات وتكثيف الاعتماد علي أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف مناحي الحياة‏,‏ علينا إدراك أن طبيعة المعلومات المطلوب تأمينها وصيانتها وتداولها داخل المجتمع تتغير بشدة لأنها تنتقل من حالتها الورقية والشفهية ووسائل نقلها وتداولها يدويا إلي حالة رقمية تسمح بتداولها وإدارتها إلكترونيا عبر شبكات المعلومات والاتصالات التي ترابطت محليا ووطنيا وإقليميا وعالميا حتي حققت نوعا من العدالة في توزيع الخطر علي الجميع .

وإذا كنا ننادي بالتعامل مع أمن المعلومات باعتباره ركيزة الأمن القومي‏,‏ ويحتاج سياسة وطنية تنطلق من التركيز علي ثقافة أمن المعلومات قبل معدات وأدوات تأمين المعلومات فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو‏:‏ ما هي تحديدا المعلومات المطلوب تأمينها وحمايتها وفق سياسة أمن وطنية وما هو التغيير الذي طرأ عليها في ظل ثورة المعلومات .

لو بدأنا بالسؤال الخاص بالمعلومات المطلوب تأمينها وحمايتها‏,‏ فيمكننا القول أنه منذ بدء الخليقة اعتمد الإنسان في حياته علي توليد وتداول وتوظيف المعلومات بشكل أو بآخر‏,‏ فكل قراراته ـ بدءا بقرار تحديد موعد استيقاظه في الصباح إلي تحديد موعد نومه ليلا ـ تتغذي علي المعلومات سواء كان يعي ذلك أم لا‏.

‏ فهو حينما يقرر الاستيقاظ في السادسة مثلا لابد أن تكون لديه معلومة تبرر له الاستيقاظ بهذا التوقيت كارتباطه بوسيلة مواصلات تنقله للعمل‏,‏ وحينما يقرر الذهاب للنوم لابد أن يكون لديه معلومة تؤكد أنه لم يعد لديه ما يجعله مستيقظا‏..‏ وهكذا الحال في بقية تفاصيل حياته وترتبط فاعلية وصواب هذه القرارات وتأثيرها علي حياته سلبا وإيجابا ارتباطا وثيقا بجودة ما يستخدمه فيها من معلومات ووعيه بكيفية توظيفها والحفاظ علي سلامتها‏,‏ ومن هنا فإن الإنسان الفرد يعيش علي مدار اليوم وسط تيار من المعلومات يحدد له كل تصرفاته ‏.

وفي المجتمع الكبير لا يختلف الأمر كثيرا‏,‏ فالمجتمع يضم مجموعات من الأفراد وبالتالي فجميع قراراته وكل تفاصيل الحياة فيه تتغذي علي تيارات متدفقة متنوعة من المعلومات تسري في أوصاله طوال الوقت بلا انقطاع بوسائل وقنوات مختلفة‏,‏ فتتوازي أحيانا وتتقاطع أحيانا‏,‏ وتتجمع أحيانا ثالثة لتنشئ محتوي معلوماتي مجتمعي مشترك يضم التفاصيل الكاملة لحياة الأفراد والجماعات‏ .‏

وعمليا لا يتجمع المحتوي المعلوماتي المجتمعي المشترك في نقطة واحدة بل يتفرع في اتجاهات شتي مكونا محتويات معلوماتية فرعية منوعة كل منها يتعلق بقطاع أو فئة من فئات المجتمع أو نشاط من أنشطته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها‏,‏ وفي النهاية فإن المحتوي المعلوماتي المجتمعي المشترك هو المادة الخام الأساسية التي يعتمد عليها عقل المجمتع في إدارة وحماية مصالحه العليا والدنيا والحفاظ عليها سواء علي المدي القصير أو البعيد‏,‏ ومن ثم يحتاج هذا المحتوي دوما إلي تأمين ‏.

ووفقا لهذا المنظور يمكن تحديد المحتويات المعلوماتية المجتمعية الرئيسية المطلوب حمايتها وفق سياسة تأمين وطنية كالتالي ‏:-

*‏ المحتوي المعلوماتي العسكري الأمني‏:‏ ويضم المعلومات الخاصة بالجيوش وتنظيمها وهيكلها الداخلي وعدد أفرادها ومؤهلاتهم التدريبية والعملية ومستوي روحهم المعنوية ونوعية ما لديها من أسلحة وعتاد وأوضاعها وتوزيعاتها علي الارض‏,‏ كما يضم المعلومات المتعلقة بالأمن الداخلي للمجتمع لدي الشرطة والمباحث والمخابرات وغيرها من الأجهزة الأمنية ‏.‏

*‏ المحتوي المعلوماتي الاجتماعي‏:‏ ويضم المعلومات الخاصة ببنية المجتمع وتركيبه الاجتماعي والطبقي واتجاهاته المختلفة ومستويات التعليم والفقر والأوضاع الصحية وأوضاع الأقليات الدينية والإثنية والقضايا ذات الحساسية المجتمعية التي من شأنها إذكاء الصراعات فيما بين فئاته المختلفة‏,‏ وقد يتصور البعض أن هذه النوعية من المحتوي المعلوماتي لا تدخل في نطاق ما يستحق الحماية لكونها معروفة ومكشوفة للجميع‏,‏ لكن الواقع الفعلي ـ حتي من خبرة المجتمع المصري نفسه ـ يؤكد أن هذا المحتوي المعلوماتي كان مسرحا لاهتمامات قوي وأطراف رأت أن هذا المحتوي غير موجود‏,‏ فسعت حثيثا إلي توليده عبر دراسات عريضة النطاق بالغة العمق تتم ببطء‏,‏ ولعل الجدل الشديد الذي أثير حول قضية البحوث الاجتماعية المشتركة مع جهات أجنبية‏,‏ يقدم لنا دليلا حيا علي ذلك ‏.‏

*‏ المحتوي المعلوماتي الفكري والسياسي ‏:‏ ويضم المعلومات الخاصة بالنخب السياسية والفكرية المؤثرة في المجتمع كالقيادة السياسية وكبار العاملين في الحكومة من الوزراء ومساعديهم وقادة وأعضاء الأحزاب والحركات السياسية المختلفة سواء في الحكم أو المعارضة بخلاف الكتاب والمفكرين والإعلاميين.

‏*‏ ومرة أخري قد يتصور البعض أن هذه النوعية من المحتوي المعلوماتي منشورة ومعروفة‏,‏ ولا يجب أن نقلق بشأن حمايتها‏,‏ وهذا تصور خاطيء ولنتذكر نضرب مثالا واحدا حول الزعيم السياسي الذي قام خصومه بالحصول علي كل المعلومات المتعلقة بحالته النفسية والسلوكية وكيف استخدموها بمكر في مفاوضاته معهم‏,‏ ولننظر كيف استخدم الأمريكيون أخيرا معلومات منهجية موثقة وعميقة عن اتجاهات النخب السياسية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق لخدمة مصالحهم فضغطوا لتغيير بعض النظم وحافظوا علي بعضها ‏.‏

*‏ المحتوي المعلوماتي الاقتصادي والخدمي ‏:‏ ويضم المعلومات المتعلقة بالأوضاع الاقتصادية والخدمية من زراعة وتجارة وتصنيع وتعليم وصحة وبنوك‏,‏ ومنها علي سبيل المثال لا الحصر معلومات الجمارك وهي مصدر للحركة التجارية علي مستوي الدولة والمعلومات المالية بسوق المال والبورصة والبنوك ووزارة المالية والمعلومات التجارية بالمصالح الحكومية والوزارات وشركات قطاع الأعمال العام‏ .

*‏ المحتوي المعلوماتي العلمي والبحثي ‏:‏ ويضم المعلومات المتعلقة بالبحوث الأكاديمية وأنشطة التطوير والابتكار والاختراع في شتي القطاعات والمجالات وما تضمه من نظريات و أفكار وتكنولوجيات وأساليب وأدوات جديدة في العمل والإنتاج والتفكير‏,‏ وأيضا الكوادر البشرية من الباحثين والعلماء وأوضاعهم العلمية والمعيشية وطموحاتهم واتجاهاتهم‏,‏ وعادة ما تعكس هذه النوعية من المحتوي المعلوماتي جانبا كبيرا من النوايا والخطط المستقبلية للمجتمع وحيويته العقلية وقدرته علي التجديد ومواجهة التحديات الحالية والمتوقعة ‏.‏
*‏ والآن نأتي للسؤال الثاني‏:‏ ما التغيير الذي حدث في طبيعة هذه المعلومات ويستلزم الدعوة للتعامل معها وفق سياسة وطنية موحدة يتولاها الاستراتيجيون لا التقنيون ؟؟ ‏.‏

*‏ قد يجادل البعض بأنه بالإمكان رسم سياسات جزئية مشتتة مستقلة لتأمين كل محتوي معلوماتي من المحتويات السابقة علي حدة بل ربما يرون عدم التفكير في تأمين البعض منها لأنه لا يستحق الحماية أصلا والحقيقة أن مثل هذه الأفكار والآراء أصبحت خاطئة وخطيرة‏,‏ ولا تدرك حجم التغيير الذي طرأ علي طبيعة المعلومات وأساليب تداولها وعمق الاعتماد عليها‏,‏ فالكم الأكبر من المعلومات المتدفقة من حولنا بات يتحول سريعا من المرحلة الشفهية والمكتوبة علي الورق إلي شكل إلكتروني يخزن في قواعد بيانات ويتداول عبر شبكات معلومات‏,‏ ويجري التعامل معه عبر نظم وبرمجيات بالغة التعقيد والتطور

*‏ لذلك فمهما كانت المعلومات بسيطة مفتتة‏,‏ وتبدو لا قيمة لها فسرعان ما تتكامل لتؤثر تأثيرا حيويا علي اليومية للفرد والمجموعة والمؤسسة والمجتمع ككل وتحيله إلي شكل من أشكال الحياة الرقمية التي تعتمد علي معلومات يتم استقاؤها من حركة الأحداث والظواهر والحقائق‏,‏ ثم توظيفها علي الفور‏,‏ وأمثلة ذلك المعاملات الإلكترونية بين الموظفين داخل شركة أو منشأة أو بين منشأة وأخري أو بين مجموعة منشآت وبعضها البعض فيما يعرف بالأعمال الإلكترونية‏,‏ أو بين الطلاب والمدرسين في التعليم الإلكتروني‏,‏ وبين الأطباء والمرضي عبر الطب الإلكتروني‏,‏ وبين المواطنين وأجهزة الدولة المختلفة كهيئة للأحوال المدنية أو الإدارة محلية أو مصلحة ضرائب أو الجمارك غيرها‏,‏ ليدفع مثلا فاتورة كهرباء أو مياه أو يحصل علي تذكرة قطار أو ينهي إجراءات معاش أو يدلي بصوت في الانتخابات فيما يعرف بالحكومة الإلكترونية والديمقراطية الرقمية ‏.‏

*‏ يساعد علي ذلك أن التكنولوجيات المرتبطة بالمعلومات قد رفعت المعدل الذي تعالج وتنقل به البيانات من شكلها الخام إلي مرحلة المعلومات ذات المعني والقيمة‏,‏ مما ضاعف من تأثير المعلومات علي كل المجالات اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وعلميا وعسكريا وعمليا‏,‏ وفي غضون ذلك لم تكن الحروب العسكرية والنزاعات والمنافسات الاقتصادية والحضارية بين المجتمعات المختلفة بعيدة عن ذلك‏,‏ بل كانت قائدة له‏,‏ فقبل أن تدخل المعلومات وتقنياتها إلي حياة مليارات البشر الذين يعانون الفقر والجهل والمرض في بقاع شتي من العالم‏,‏ كانت قد تغلغلت في مجال الحروب والصراعات المختلفة حتي النخاع وجري توظيفها في أدوات الفتك وتدمير الأعداء والمنافسين بشكل فاق بمراحل عديدة توظيفها في التنمية والبناء ‏.‏

وهكذا‏..‏ فإنه في ظل المعلومات الرقمية أصبح تتبع حركة البريد الإلكتروني وتيارات المعلومات المتدفقة عبر شبكات المعلومات المختلفة داخل المجتمع كافيا لرصد الواقع الاجتماعي في العمق‏,‏ وأصبح اختراق قاعدة بيانات المصرف المركزي عبر خبير في صيانة أمن المعلومات أو مبرمج صغير أمرا كافيا لكي تقع البيانات الاقتصادية الحساسة لكل البلاد في قبضة منافس أو متربص‏,‏ وأصبح ضرب نظم معلومات الإدارة والتحكم والسيطرة في محطات الكهرباء المدنية بقنابل خاصة كافيا لشل حركة جيش في الميدان وحسم المعارك العسكرية بكسر شوكة النظم الحاكمة وهزيمتها‏,‏ وهو سيناريو نفذه الناتو إبان الحرب في إقليم كوسوفا ‏.‏

والخلاصة أن المعلومات المطلوب حمايتها وإن كانت تحتوي في داخلها علي تنويعات وتفاوتات واضحة في درجة وطبيعة الحماية المطلوبة لها‏,‏ فهي في النهاية تشكل مزيجا مترابطا يتداخل فيه المدني مع العسكري والاقتصادي مع الاجتماعي والسياسي مع التقني‏,‏ ومن ثم باتت تواجه أخطارا وتحديات جديدة تحتاج سياسات تأمين مختلفة عما كان معهودا ومطبقا في السابق ‏.‏

صلاح محمد عبدالدائم شكوكو
shococo@hotmail.com

Exit mobile version