على الرغم من أن ارتباطهم كان تقليدياً وفقاً لما اتفقت عليه العائلة مسبقاً إلا انه وبعد عشر سنوات من الزواج لم تخدم الروابط الاسرية في الحيلولة دون انفصالهم عن البعض ،أثمرت تلك السنوات عن أربعة أبناء لم ترسم لهم الايام حياة هانئة مستقرة ليزوج الوالد ويدعهم يتخبطون في الحياة تحت أيدي أم جاهلة لم تعلمها الايام ولا المدارس النظامية ووسط مجتمع ينظر إليهم بعوامل النقص وتحت ظل الضغوط الاقتصادية وبُعد الوالد الذي رفع يده عنهم حتى من ناحية التزام مادي أو معنوي ليترك لهم الاسم والانتماء ليصاب الابن الثاني بمرض نفسي وبدون معرفة اسبابه أودعته إلى أحد الشيوخ بقرى الجزيرة ولم يتجاوز ذلك العام ليدمن صغيرهم المخدرات .وعندما ثقلت الهموم لدى شاب لم يكمل تعليمه الجامعي أصيب بهزة نفسية عارمة الحقته بأخويه الصغار ووسط كل هذا يقف الأب بعيداً كأن الامر لا يعنيه ليترك إلى تلك المرأة التي اكتفت بزيارات الشيوخ والشرفاء والدجالين بحثاً عن علاج لابنائها وعندما لم تجد ما كانت تصبو إليه وضعتهم نصب عينيها واضعة يدها على خدها.
وفي الوقت الذي أعلنت فيه منظمة الصحة العالمية عن اصابة أكثر من 450 مليون شخص في العالم باطرابات نفسية كشفت وزارة الصحة الاتحادية عن ارتفاع في معدلات الامراض النفسية بالبلاد تصل إلى 150 مريضاً يومياً وخصت بالزيادة الشباب وشريحة النساء التي بلغت نسب الإصابة لديهن 15% فيما بلغت وسط الرجال 10% وكان د. عبد الله عبد الرحمن مدير مستشفى التجاني الماحي ورئيس الجمعية السودانية لاختصاصيي الطب النفسي في الاحتفال باليوم العالمي للصحة النفسية قد ارجع ذلك إلى تفشي البطالة وسط الشباب والظروف الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وتحدث عن استقبال العيادات الخارجية لحوالي 100-150 مريض نفسي يومياً متوقعاً ان ينال المرض النفسي المرتبة الثانية عالمياً بعد أمراض القلب والضغط بحلول عام 2020م واشار إلى انتشار العلاج بالطرق غير العلمية والعلاج الروحاني خلال الفترة الاخيرة باعتباره سبباً في تأخير وتعقيد المرض بصورة أكبر.
وعن الأمراض النفسية في السودان وزيادتها كان لنا حديث مطول مع استشاري الطب النفسي والعصبي بمستشفى التجاني الماحي الدكتور علي محمد علي بلدو ابتدره بالقول بأن أكثر من 60% من الامراض ذات منشأ نفسي وأصل المرض النفسي هو مرض ذو منشأ عضوي ناتج من اختلال في الهرمونات وتلعب فيه عوامل الوراثة دوراً مهماً وبالسودان العديد من المستشفيات التي تهتم بالطب النفسي منها مستشفى التجاني الماحي وطه بعشر والادريسي إلى جانب اقسام الطب النفسي المختلفة بالولايات.
ومع الحديث عن تزايد نسب الاصابة بالامراض النفسية والتي تتراوح ما بين 2-5% لبعض الامراض كالفصام نجدها تصل إلى نسب عالية في حالات الاكتئاب فهذه الايام اصبحت ارقام الاصابة به في تزايد مضطرد وسط فئة الشباب وهم في مقتبل العمر تتراوح ما بين 3-1 وسط النساء وعموماً يعود تزايد النسبة إلى العوامل الفسيولوجية والبيئية والنزاعات والاضطرابات القبلية بالاضافة إلى الضغوط الاقتصادية والخلافات الزوجية.
ويعد الاكتئاب النفسي من أكثر الامراض النفسية شيوعاً يليه الفصام ثم الوسواس القهري والادمان الذي اصبح ظاهرة نتيجة للعولمة سواء كان ادمان خمور أو مخدرات.. ولكن الاحصائيات تشير إلى ان 80% من المرضى النفسيين داخل الخرطوم مما يشكل عبئاً ضخماً يؤدي لزيادة عدد المرضى في المستشفى إلى اكثر من 300 مريض ما بين الحوادث والطوارئ والعيادة المحولة مما يشكل ضغطاً كبيراً على الاطباء والمرضى والمرافق العامة بالمستشفى خاصة اذا علمنا ان المستشفى يحتوي على 120 سريراً فقط وهو يقوم بعلاج مرضى من داخل وخارج السودان فهو يستقبل المرضى من تشاد وزائير والكنغو وافريقيا الوسطى ليكون المرضى المنومين فيه بالعادة أكثر من 90% تصل حتى نسبة 100% فلا يوجد احياناً سرير شاغر ومع هذا نقدم كافة التزاماتنا تجاه المرضى ولا نعمل على تخريج المريض إلا اذا تعافى تماماً ولكن في حالة الازدحام قد لا نستقبل مرضى جددا.
وفي اشارة منه إلى اسباب لجوء المواطنين إلى العلاج الروحاني لدى الشيوخ والدجالين يقول بلدو ان الصرف المالي على المرض النفسي يعد من أغلى أنواع الصرف الطبي من ناحية علاجات وكشف طبي وسريري وفحوصات ومقابلات مما يوقع عبئاً اقتصادياً كبيراً على الاسر بكل درجاتها فيضطر البعض إلى عدم ولوج مجال الطب النفسي وتقليل تكاليف العلاج بالوقوع في براثن الدجالين وحارقي البخور وقارئ الكف مما يشكل عبئاً اضافياً بتدهور صحة المريض وقد يقوده هذا إلى ارتكاب الجرائم من قتل واغتصاب وقد يكون الضحية الأم أو الأب مما يشكل هاجساً للمجتمع بأكمله .وهذا لا يمكن تداركه إلا باقامة مستشفيات اضافية تقدم رعاية متكاملة تحمي المرضى من أنفسهم وتحمي المجتمع من تفكك نسيجه الاجتماعي.
وباعتباره أحد اسباب ارتفاع نسب الاصابة بالامراض النفسية بالبلاد تحدث بلدو عن ان انتشار الادمان أصبح هاجساً أمنياً وسياسياً واجتماعياً بصورة اساسية لانه يخص شريحة الشباب وله مضاعفاته من انتشار الامراض الجلدية والتناسلية والالتهابات الوبائية، وربط ما بين المرض والارشاد النفسي بقوله ان من الضروري ان يخضع المريض إلى الارشاد من اجل رفع ادراكه لمشكلته لأن الكثيرين قد لا يعلمون انهم مصابون بأمراض نفسية قد ترجع لاسباب عضوية لا يتم علاجها بصورة صحيحة ولكن اذا تم اقامة مراكز للارشاد النفسي تبين الثقافة الصحية النفسية فمن المؤكد ان الشخص الذي يعاني من اشكالات نفسية سوف يعمل على عرض نفسه على الجهة المناسبة مما يساعد في سرعة شفائه وتقليل كلفة العلاج واعادته إلى حياته الطبيعية كانسان سوي ومعافى نفسياً.. ومع كل هذا قد يحدث وتعاود المريض الشكاوى مرة أخرى وقد لا تعاوده مطلقاً وعقد الاصابة بأي مرض نفسي يجب الأخذ في الاعتبار ان هذا الشخص قد يتعرض لانتكاسات أخرى ما لم يتم التعامل معه بصفة خاصة وغالباً ما تحدث الانتكاسات عقب الاصابة بأمراض عضوية أخرى أو عند التعرض للحوادث أو للضغوط الحياتية العالية مثل الانفصال وهنا يأتي دور تعاطي المخدرات والادمان كمؤثر اساسي في انتكاس المريض بعد شفائه. وفي العموم اكثر الاشخاص عرضة للاضطرابات النفسية الاشخاص ذوي الخلفية التاريخية النفسية سواء من جهة الاب او الام والشخصيات الحساسة التي تعاني من نوبات هستيريا والشخصيات المرتابة والمتوجسة والذين لا يعيشون حياة مستقرة مثل «العزابة» او الذين ليس لديهم اصدقاء او هوايات ومتعاطي المخدرات هذا بالاضافة الى الاشخاص في مواقع النزاعات والحروب والتوترات النفسية وأي شخص تحت ضغط اقتصادي طاحن كل هذا يجعل من الشخص اكثر عرضة للمرض النفسي من غيره.
وحين بدأ الحديث عن ارتفاع الاصابة لدى النساء يقول بلدو ان الاختلاف الهرموني والفسيولوجي بين تركيبة الرجل والمرأة مع القيود المجتمعية والنظرة غير المتوازنة تجاه المرأة في المجتمع أدى الى ازدياد نسبة اصابتها بالامراض النفسية مما يستدعي رفع الوعي الصحي لدى شريحة الفتيات في اماكن وجودهن وعلى الرغم من ان هناك اعلان عن زيادة في اعداد المرضى الا ان الدكتور بلدو تحدث عن نقص حاد في الاطباء المتخصصين في الطب النفسي في وقت تتزايد فيه ارقام المرض باضطراد مستمر، وارجع ذلك الى أن مجالات الطب النفسي من اكثر المجالات المرغوبة في الخارج لاعتبارها من التخصصات النادرة والعائد المادي لمهنة الطب عموما في السودان اصبح غير مجزٍ وطارداً مما يدفع الكثير من الاطباء في مجال الطب النفسي بالهجرة لخارج السودان لتوفير الحد الادنى من تكاليف المعيشة وهذا خلق نقصا حادا في الاطباء المتخصصين مما اثر على تقديم الخدمة لمرضى اعدادهم في تزايد مستمر.. وختم الدكتور علي بلدو حديثه عن ضرورة الالتفات الى ظاهرة زيادة الامراض النفسية وضرورة التعامل معها بشفافية وعدم الهروب منها مع التزام الدولة بالقيام بواجبها كاملا لتقديم الخدمة الطبية المتكاملة للمواطنين بصورة مدعومة لفئة عانت من الاهمال. وتحدث عن دور الاسر المهم تجاه ابنائها المرضى وصبرهم على التعامل مع الامراض النفسية.
ولارتباط المرض النفسي والمريض النفسي بالمجتمع هذا مع الخلفية السلبية للمرض وعدم التعامل معه كمرض عضوي يمكن ان يصيب اي شخص وقابل للعلاج كبقية الامراض العضوية فكان لنا اتصال هاتفي مع الخبيرة الاجتماعية الدكتورة اماني حسن محمد والتي ابتدرت حديثها بالقول بان ازدياد انتشار المرض النفسي وسط الشباب يرجع الى ان الشباب اصبح في حالة تطلع مستمر للمستقبل ومتطلبات الحياة اليومية اصبحت اعنف وأقوى من تحمل الشباب. فواقع الحياة العملية والمجتمع اصبح مصابا بكثير من المفارقات التي يصطدم بها الشباب مع زيادة الضغوط الاقتصادية والتي اصبح الكثير منها يقع على كاهل المرأة وهي بطبعها متطلعة للحياة واكثر حبا للحياة والتمتع بها من غيرها فاصبحت تعاني ما تعانيه من متطلبات الحياة اليومية.. لذا دائما ما نجدها تصاب بحالات من الاكتئاب والذهان المختلف نسبة لطبيعة تكوينها الجسماني والنفسي الذي جعلها اكثر رقة من غيرها.. وفي شريحة الشباب نجد ان معاناة ما بعد التخرج وضيق فرص العمل مع مستويات الطموح كل هذا يمثل القاعدة الخصبة للاصابة بالاكتئاب مما أدى الى لجوء الكثير من الشباب لتعاطي المخدرات من اجل تفريغ الشحنات الزائدة من الغضب والاثارة حتى يصبوا فيها معاناتهم، في وقت بدأت فيه المرأة تتحمل ما فوق طاقتها بخروجها للعمل وتحملها اعباء العمل والمنزل كل هذا فتح ابوابا مشرعة للدجل والمشائخ وزارعي الآمال الكاذبة للشباب التي تبني بداخلهم الاوهام لتكون سرابا لدى اصطدامهم بواقع الحياة المرير فلا يقوى غالبيتهم على تحمله فيصابوا بالاحباط والاكتئاب والتوترات النفسية ولكل شخص منا بؤرة نفسية تكون نافذة ينفس بها الشخص عن ضغوطه وعندما تصل الضغوط الى ما لا نهاية تنفجر فيصاب بالامراض النفسية واكثر خطورة في المجتمع من يصاب بالاكتئاب لدرجة الانتحار.
وكان دستور منظمة الصحة العالمية قد نص على ان الصحة هي حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض او العجز وتحدث عن مهددات الصحة النفسية بان هناك عوامل اجتماعية ونفسانية وبيولوجية متعددة تحد مستوى صحة الفرد النفسية في مرحلة ما ،واعترفت المنظمة بان استحكام الضغوط الاجتماعية والاقتصادية من المخاطر التي تحدق بالصحة النفسية للافراد والمجتمعات المحلية وتتعلق بمؤشرات الفقر بما في ذلك انخفاض مستويات التعليم وربطت ما بين تدني مستوى الصحة النفسية والتحول الاجتماعي السريع وظروف العمل المجهدة والتمييز القائم على نوع الجنس.
الصحافة
تحقيق- تهاني عثمان