يذكر عدد من معاصري اللواء جوزيف لاقو قائد الأنانيا الذي وقع إتفاقية أديس أبابا الشهيرة، أنه ساعة أعتلائه منصة ما لمخاطبة حشود تنتمي لجنوب البلاد، كان يبتدر بقراءة خطاب مجهّز ومكتوب باللغة الإنجليزية ومن ثم يقوم – هو نفسه- بترجمته للحضور بصورة شفاهية وآنية إلى (عربي جوبا) بغية ضمان فهم أوسع، وإنتشاراً أعم للرسائل التي يود ايصالها. كما وتظهر مقاطع فيديو عديدة. الراحل د. جون قرنق الزعيم السابق للحركة الشعبية وهو يتحدث بذات اللغة: عربي جوبا شأنه في ذلك شأن عديد من قادة الجنوب حتى في عز أيام الاقتتال مع الشمال.
……
هذا عن زمان مضى، أما اليوم فيظهر الفريق سلفاكير ميارديت رئيس حكومة الجنوب عبر وسائل الاعلام (المحلية والعالمية) بقبعته المميزة وهو يتحدث معظم الأحايين اللغة الانجليزية أو العربية التي يتخللها عدد كبير من الكلمات والجمل الانجليزية. ومن واقع تجربة شخصية عايشتها بنفسي إبان مؤتمر السلاطين في بانتيو العام الماضي استمعت الى كير يتحدث طيلة أربع ساعات بعربي جوبا البسيط والمحبب للنفس (تخللته بعض الانجليزية)، الأمر الذي جعل خطابه مصدر ارتياح كبير للحضور القادم من كل أنحاء الجنوب، وظهر ذلك في التصفيق المستمر وكلمة وييي وهي تسبق اسمه، واسم الحركة، والجنوب داخل أرجاء القاعة.
وفي سياق ذي صلة باللغة، تعرف موسوعة (ويكبيديا) العالمية الجنوب بأنه (الجزء الجنوبي من جمهورية السودان، وهو أقليم حكم ذاتي له حكومة وجيش وعاصمته وكبرى مدنه هي جوبا ولغته الرسمية الانجليزية، وعربي جوبا) وبالتوغل قليلاً تشير الموسوعة الى أن الانجليزية هي اللغة الرسمية للجنوب منذ العام 1928م واعترف بها كلغة أساسية مطلع الثمانينيات. أما اللغة العربية المعروفة بعربي جوبا فإن الموسوعة لا تضع تصنيفاً تراتيبياً لها وأن قامت بوضعها في ذات السطر مع الانجليزية، فقط تفصل بينهما فاصلة لغوية (شولة) ضمن مربع الاجابة على سؤال اللغات في الجنوب، وتجدر الاشارة الى أن الموسوعة تقول إن عربي جوبا مستخدم على نطاق واسع في الأقليم المتمتع بحكم أقوى من الـ (كونفيدرالي) جراء انفراد الحركة الشعبية بالحكم وأمتلاكها لجيشها الخاص.
ومن المعلوم بأن اللغة الرسمية في الجنوب هي: الانجليزية، ودخلت مع دخول المستعمر البريطاني للسودان وتعد اللغة الديوانية في المكاتبات والمعاملات الرسمية – وإلى يومنا هذا- حتى ان اتفاقية السلام الشامل مكتوبة بالانجليزية ومن ثم جرت ترجمتها للعربية.
وتغلغلت الانجليزية في الجنوب بفعل السياسات التي رمت لفصل الجنوب عن الشمال من خلال تحجيم اللغة والمظاهر العربية، فمنع تداول العربية واللباس الشمالي التقليدي (الجلابية)، وأصبحت الانجليزية لغة المناهج والتعليم في الجنوب، وكتبت اللغات الجنوبية بالحرف الانجليزي للتيسيرعلى أبناء الجنوب فهم الكتاب المقدس، فضلاً عن الأدوار السالبة التي لعبتها الكنائس والبعثات التبشيرية بتصوير العربية على أنها مرادف للاسلام وبالتالي تم تأطيرها داخل الذهن الجنوبي ضمن خانة العدو للدين المسيحي.
وبمنأى عما صنعه الاستعمار، أشار د. وجدي كامل مدير مركز مالك عقار الثقافي لـ (الرأي العام)الى ان اللغة الانجليزية هي الأكثر حظاً للفوز بالصفة الرسمية (الرسمنة) بدولة الجنوب وعزا ذلك إلى أنها لغة التعليم، وأن الجنوب يقع في نطاق افريقيا الانجليزية ويجاور دولاً تتحدث بالانجليزية نحو يوغندا، وفضلاً عن كل ذلك فإن المثقفين، وقادة العمل الجنوبي، والمهاجرين الممسكين بتلابيب العمل والوظائف – كلهم- ممن يجيدون الانجليزية أما ما لم يذكره الكامل فمتعلق بحالة الارتباط بين الجنوب ودول الغرب ومنظوماته.
وبالانتقال لعربي جوبا، نجد أنها اللغة الهجين بين العربية المستخدمة في شمال السودان ولغة قبيلة الباريا، وتكوّنت داخل أدغال الجنوب مطلع القرن التاسع عشر بحسب تقديرات تاريخية وإن كانت هناك تقديرات تشير لنشأتها في العام 1821م، أي مع دخول الأتراك للسودان، ويصنف عربي جوبا بأنه اللغة الرئيسية للتواصل بين المجموعات السكانية في الجنوب.
وبحسب ما أورده بروفيسور حسن الساعوري أستاذ العلوم السياسية فإن العامل الاقتصادي يعد أحد أكبر العوامل التي ساهمت بأن يكون (عربي جوبا) اللغة الأكثر شيوعاً في الجنوب، فالتجار الشماليون وضعوا أرجلهم هناك منذ وقت قديم وساهمت عمليات التصاهر بينهم والسكان المحليين في إنتاج تلك اللغة الهجين لأغراض التواصل، كما أن القبائل العربية التي ترحل بقطعانها الحيوانية جنوباً (المسيرية) ساهمت هي الأخرى في انتشار اللغة العربية، وينطبق ذات الحال على مناطق التماس التي تشهد وجوداً لقبائل عربية وأخرى أفريقية ما حتم من وجود لغة هجين للتواصل والتعامل التجاري، كما أن الحرب – والكلام لا يزال للساعوري- وعلى علاتها عمقت تلك الأواصر بين الضباط والجنود وأهل الجنوب فتمت الزيجات وولد جيل جديد بموروث ثقافي مشترك (هجين) . كما ان عمليات النزوح نحو الشمال ساعدت في اندماج واندغام أهل الجنوب ضمن الكتلة السكانية شمال حدود ملكال وبحر العرب حيث استقر جزء كبير منهم وتلقى قسطاً كبيراً من التعليم باللغة العربية بل وان عدداً منهم لا يعرف سواها.
وفي أعقاب اتفاقية اديس أبابا حدثت حالة حراك سكاني منظم دخل جراءها أبناء الجنوب المدارس الشمالية ودرسوا فيما يعرف بالمدارس القومية التي كان معظمها بالعربية ويضاف إلى هذا ان (150) طالباً جنوبياً كانوا يبعثون للدراسة في الجامعات المصرية يضاف إليهم عدد مماثل في الأزهر وفي سوريا والعراق.
ومن العوامل المهمة التي ساهمت كذلك في انتشار اللغة العربية وعربي جوبا: الدين الاسلامي حيث يدين عدد مقدر من أبناء الجنوب بالاسلام، وتفرض التعاليم الاسلامية على كل مسلم ومسلمة تعلم القرآن الكريم المنزّل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم باللغة العربية.
وفي الوقت الراهن، تجأر أصوات شمالية من مخافة اندثار اللغة العربية في الجنوب، لأسباب سياسية، حيث يعتبر البعض بأن مشروع الحركة الشعبية قائم على انهاء الوجود العربي والاسلامي في السودان، مشروع خففته نيفاشا بصيغة وسطية غير متشددة ولكن هناك مخاوف موضوعية بأن يعاد العمل بذات المنفستو ضد الرمزية العربية والاسلامية حال الانفصال خاصة مع شكوى المسلمين هناك من حالتي التضييق والعنت عقب انفراد الحركة الشعبية بحكم الجنوب.
وأختار أقوك ماكور – قيادي الحركة بقطاع الشمال- بث تطمينات قوية للمتخوفين حيال الخطوات التي يمكن ان تنتهجها الدولة الجديدة – حال الانفصال- تجاه العربية ومفادها أن اللغة العربية غير محاربة، فهي عنده لغة التداول والسوق والأكثر شيوعاً. وأكد ماكور لـ (الرأي العام) أن المنهج المدرسي الموجود في الجنوب هو ذاته القومي الموجود في الشمال (على الأقل الى اليوم) ويدرس في مدارس حتى مسمياتها عربية مثل (ملكال الثانوية).
أما بروفيسور علم اللغات بول دينق شول فقطع باستحالة القضاء على اللغة العربية في الجنوب وقال لـ (الرأي العام) بأن عربي جوبا هو لغة التواصل بين شعب الجنوب وقبائله المختلفة وأضاف: لا سبيل من تواصل للمجموعات الجنوبية إلاّ بتلك اللغة الهجين. سبب لم يكن الوحيد عند دينق فأخرج من جعبته مصلحة الافادة من دولة الشمال، ومن الدول العربية وعلى رأسها مصر التي درس فيها عدد من أبناء الجنوب (أشهرهم أتيم قرنق) وقال: عربات الجنوب معظمها قادم من العاصمة الإمارتية دبي، وتابع بلهجة مرتفعة قليلاً: غصباً عنهم يتعلموا العربية فالانجليزية مجرد لغة للافندية.
وغير بعيد، عن موضوع اللغة، صرّح د. لوكا بيونق القيادي البارز في صفوف الحركة الشعبية للزميلة (الصحافة) قبل فترة عن احتمالية ادخال اللغة السواحلية كلغة أساسية في دولة الجنوب حال الانفصال. تصريح يعد مقبولاً عند قراءاته مع الانفتاح الكبير وتحديداً عقب اتفاقية نيفاشا على دول جوار تتحدث في معظمها السواحلية ، كما أن قبيلة أخرى كالأشولي (مشتركة بين السودان ويوغندا) يتحدث عدد من سكانها السواحلية الى جانب لغة القبيلة الأم ما يعد عاملاً جديداً يدعم نظرية د. لوكا. غير أن لبروفيسور دينق رأياً مغايراً ومبنياً على أسس علمية ويقول بانه لا توجد قبيلة جنوبية – البتة- تتحدث السواحلية ما جعله يخلص إلى أن الجنوب وحال أراد جعل السواحلية لغته الرسمية، فعليه تدريسها وتعليمها للجنوبيين مثلها في ذلك واللغة الصينية.
وفي ذات المضمار، تقف الى جانب العربية والانجليزية والسواحلية لغات أفريقية شديدة الشيوع ضمن عدد هائل من اللغات تفوق الـ (50) لغة موجودة في الجنوب وهي لغة النوير ،ولغة الشلك ولغة الدينكا ويتحدثها زهاء الـ (2) مليون و(700) شخص من مجموع سكان الجنوب. ومن المهم هنا التفريق بين اللغات التي تعرف على أنها الأصوات المكتوبة واللهجات المتحدثة شفاهة دون كتابتها.
وتجدر الاشارة الى أن لغات القبائل الجنوبية تعاني من ذات علل اللغات المحلية الأخرى في بقاع الكرة الأرضية وأخطرها الانقراض، فالجيل الجديد شب عن الطوق القبلي وهجر لغاته لصالح اللغات العالمية .كما أن ذات الموروث الثقافي اللغوي تتهدده الشروط السياسية والاقتصادية المعطوبة التي تنعكس مباشرة على اللغة.
على كلٍ، فإ ن مسألة التكهن باللغة التي ستسود في الجنوب حال الانفصال يعتبر ضرباً من ضروب الاستباق، استباق لن تطول مدته ان علمنا بأن برلمان الجنوب هو الجهة المخول لها ترجيح كفة لغة على صنواتها الأخريات لتكون وجهاً لتعاملات الدولة الخارجية، ولكن الأمر الحتمي بأن السياسة ستكون حاضرة بظلالها ساعة التصويت.
الراي العام
مقداد خالد