جامعة المغتربين .. قبل تحليل الفكرة ، أرى أن الاسم غير مناسب ..قد أكون مخطئا ، وليس بالضرورة أن يحدث سجال أو خلاف حول الاسم المقترح ، علما بأن هناك جهة ما اقترحت الوطن اسما لهذا المشروع ، ولكن تمسكت جهة أخرى بالمغتربين اسما له ، ولكل جهة تقديرها الذي لايخل بجوهر الفكرة .. أنا من أنصار أن تحمل جامعاتنا أسماء ولايات ومدائن وأنهار ومعالم بلادي ، بيد أن المغتربين – كما المعلمون والمزارعون وغيرهم – اسم قطاع من قطاعات الشعب السوداني ، والتي منها النازحون والمهاجرون واللاجئون أيضا ..وكذلك في اسم جامعة المغتربين ما يشير إلى تمييز غير محبذ حتى لقطاع المغتربين وأنجالهم ..علما بأن الجامعة ليست لأبناء المغتربين فقط كما يظن البعض تحت وطأة الاسم ، وليس من العقل أن يذهب بنا الظن إلى مثل هذا التفكير الضيق وغير المنطقي ؛ لأن لأبناء المغتربين طموح المنافسة في كل جامعات بلادهم ، وكذلك عددهم – مهما كثر – ليس بحجم ( جامعة بحالها ) ..!!
** ما سبق ليس مهما ، فالمهم فكرة المشروع التي يجب أن تناقش بموضوعية تحدق في الإيجابيات المرجوة منها ، دون غض النظر عن السلبيات ، وهكذا تقريبا دراسة جدوى أي مشروع تنموي ، بحيث تصطحب الفوائد والخسائر معا ، وترجيح كفة إحداها على كفة الأخرى هو : القرار الصحيح .. وللأسف حدث شئ ما للذهنية السودانية تجاه الأشياء ، بحيث أصبحت إما ذهنية رافضة لأي شئ أو ذهنية ناظرة لذاك الشئ بشئ من الشك والريبة.. نعم ، الوضع السياسي الراهن هو من رسخ هذه الذهنية في مجتمعنا وذلك بتغييب عنصر الشفافية في خارطة المشاريع التنموية ، حتى عجز المواطن عن التمييز بين ( النافع و الضار ) ..وتحسبا يرفض ( كليهما ) ..والنماذج كثيرة ، و ماحدث لسد كجبار لم يفارق خاطر الرأى العام بعد ..وغياب الشفافية هو : السبب .. لا سبب كجبار فحسب ، بل لأي مشروع تنموي يثير جدلا بين الرافض والمؤيد ، كما مشروع هذه الجامعة ..!!
** مع وباء تغييب الشفافية الذي مرده طرائق تفكير النهج الحاكم ، هناك أيضا أوبئة أخرى وهي الأجندة السياسية لقوى معارضة ، ثم أجندة ذاتية لبعض هواة النضال المزيف ، وهؤلاء هم الذين تعجزعقولهم عن خلق معارك حقيقية ، فتستغل بساطة البسطاء وأزماتهم وتخلق منها معارك وهمية بغرض التكسب الذاتي، أو طلب اللجوء السياسي تحت أي مسمى ، ناشط في مجال السدود مثلا ..كل تلك الأوبئة الحاكمة والمعارضة والانتهازية صارت من معيقات تقدم عجلة التنمية في بلادي ، وكثيرة هي المشاريع المجمدة في ولايات السودان المختلفة بفعل الغبار السياسي المثار حولها ، والذي أثّر سلبا على نظر المواطن البسيط .. بحيث هذا النظر لم يعد يرى الأشياء كما هي ، بقدر ما يراها كما تهوى جراثيم التحزب الأعمى – حاكمة كانت أو معارضة – والانتهازية..ونأمل ألا تصاب فكرة جامعة المغتربين – وهي في مهدها – بأوبئة تلك الجراثيم .. نأمل ذلك ، بحيث لن يسر الناس في الحياة أن يعرِّف فلان نفسه في ندوات العواصم الغربية وموائد المنظمات الدولية : ( دكتور فلان الفلاني / ناشط في مجال مناهضة جامعة المغتربين ) .. كل شئ جائز في سودانا الغريب ده ..!!
** وخيرا فعلت فكرة جامعة المغتربين بإثارة ما يحدث لأبناء المغتربين في جامعات بلادهم من قبل نهج تربوي ساذج لايرى في أمر تربيتهم وتعليمهم غير ( الجباية ) ..رسوم دراستهم فى جامعات شيدتها ضرائب ورسوم وجمارك وجبايات آبائهم هي غير رسوم دراسة بقية زملائهم ، رسوم سكنهم في مدن جامعية ساهم في تشييدها عرق وكفاح آبائهم من ديار الغربة هي غير رسوم سكن بقية زملائهم ..هذا النهج التربوي العقيم لا يرهق كاهل الأب المغترب فقط ، بل أيضا يرسخ في نفس ابنه الطالب هنا نوعا من الغربة المؤلمة ، و أسوأ أنواع الغربة هو أن يشعر المرء بأنه غريب في وطنه ، وهذا هو إحساس أبناء المغتربين أمام منافذ ( الإيصالات غير التربوية ) .. وليت العقول التي جادت بفكرة جامعة المغتربين ، تمضي قدما في تفكيرها ، بحيث تجود بنهج ( تعليمى وتربوي ) عام وشامل اسمه نهج ( جامعة الوطن ) ..وتتحلى به كل جامعات بلادي عند قبولها أبناء المغتربين لتعليمهم وتربيتهم ، وليس لاستغلال آبائهم والاستثمار في أبنائهم ، وكأنهم ( سواح أجانب ) .. فليستح هذا ( النهج التجاري الرخيص ) ..!!
الصحافة الأربعاء 23/12/2009 العدد 5926
tahersati@hotmail.com