على طريقة العمود الشهير للكاتب المصري الراحل إحسان عبدالقدوس (على مقهى في الشارع السياسي) يعيش السودانيون في مصر الذين يزيد عددهم عن المليونين، يتناولون شؤون بلدهم على مقاه خاصة بهم في العاصمة المصرية.
“دعك مما تكتبه الصحافة وتتناقله وسائل الإعلام، ولا تلق بالاً بتعليقات القراء على
موضوع هنا أو هناك ينتقد المصريين أو السودانيين، فلا يعرف حقيقة شعب شمال الوادي إلا من عايشه وتعايش معه، وعرف طريقة تفكيره”.. بهذه العبارة أجاب “أشرف يوسف عبدالمجيد” نائب رئيس مجلس إدارة “دار السودان” بالقاهرة، عن سؤال لـ”العربية.نت” حول مدى متانة العلاقة التي تربط شعبي وادي النيل، لاسيما أن السودانيين يشكلون أكبر نسبة سكانية بعد المصريين أنفسهم في مصر.
وأوضح “عبدالمجيد” أنه لا يوجد إحصاء دقيق لعدد السودانيين في شمال الوادي، لكن يقدر عددهم بنحو مليونين، مؤكدا أن العلاقة بين شعبي وادي النيل: “علاقة نموذجية بكل المقاييس لا تشوبها شائبة، على المستويين الشعبي والاجتماعي أصدقاء، بل
أشقاء، وهم الأقدر على فهم بعضهم بلا حواجز، وتاريخياً هجرات السودانيين إلى مصر كانت الأعلى والأهم، ومازالت الرابطة قوية وأزلية، نشرب من نيل واحد، ولن تستطيع السياسة بكل تعقيداتها أن تكون حاجزا بيننا وبين إخواننا المصريين يوما ما”.
السودانيون في مصر يمثلون حالة خاصة من بين الجاليات العربية والأجنبية فيها، فهم يتوافدون باستمرار إلى أقرب الدول إليهم جغرافياً ووجدانياً، وحتى الآن ما زال الجدل مستمرا حول أعدادهم، كونهم ذابوا في غالبية المدن المصرية.. لكن اللافت أنهم يحافظون بقوة على ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وتكاد تتحول بعض المدن المصرية إلى تجمعات خاصة بالسودانيين، مثل عين شمس، منطقة الكيلو أربعة ونصف، إمبابة، أرض اللواء، وبشتيل.. بينما يتواجدون بأعداد متفاوتة في مختلف المدن المصرية خاصة الجنوبية مثل أسوان، والأقصر، والغنايم ، والشمالية مثل شبرا الخيمة، والمحمودية، والإسكندرية.
الهجانة.. النواة الأولى
الممثلتان السودانيتان مواهب عثمان واخلاص نورالدين ومع صعوبة الفصل بين تاريخ شعبي السودان ومصر، يمكن الحديث عن السودانيين في العصر الحديث، الذين بدأت فئتهم الأولى “حرس الحدود” والذين عرفوا أيضا بـ”الهجانة” وهم الذين قدموا إلى مصر قبل استقلال السودان بسنوات طويلة، عندما كانت مصر والسودان دولة واحدة، وعملوا في سلاح الحدود، حتى تقاعدهم والاستقرار في مصر، ولم يعودوا مرة أخرى إلى جنوب الوادي بعد أن قرر السودان مصيره وأصبح دولة مستقلة، وهؤلاء استقروا في مصر وتوالدوا وتكاثروا وما زال أحفادهم يعيشون في مصر ويتمركزون في السويس والإسماعيلية وسيناء والإسكندرية وعين شمس وعابدين وغيرها من المدن المصرية.
أما الفئة الثانية فهاجرت من شمال السودان إلى مصر من أجل الدراسة أو العمل قبل انفصال السودان، وأغلبهم من قبليتي “الدناقلة والمحس” في أقصى شمال السودان، وهؤلاء أنشأوا أندية خاصة بهم في عين شمس وعابدين ووسط القاهرة والإسماعيلية والإسكندرية وغيرها من المحافظات المصرية، واندمجوا مع الفئة الأولى وتعاونوا في تأسيس جالية كبيرة تعتبر الأكبر في مصر.
أما السودانيون الذين قدموا إلى مصر بعد عام 1990، أي بعد قيام نظام الإنقاذ فكانوا يشكلون المعارضة السودانية، وأغلبهم اشترى شققاً وأراضي، وانخرط أولادهم في المدارس المصرية، وعندما تم الاتفاق على المصالحة بين المعارضة والحكومة السودانية عاد بعضهم إلى السودان، أما الكثيرون ففضلوا البقاء لمواصلة تعليم أبنائهم واستقرارهم. وهؤلاء كلهم مع اختلاف ظروفهم تربط بينهم ثقافة نادرة وعادات وتقاليد متينة، تجمعهم بقوة في مختلف المناسبات، فمثلا قبل شهر رمضان تستقبل المواني الجنوبية لمصر أطنانا من المواد التي تصنع منها الأكلات والمشروبات السودانية المرتبطة بالشهر الكريم من حلومر ودقيق وويكه ولحوم سودانية منشفة وابري أبيض، بالإضافة إلى كميات كبيرة من الحناء وغيرها من مواد الزينة التي تحرص المرأة السودانية على إعداد نفسها بها وهى تستقبل ضيوفها.
المقاهي والمطاعم.. منتدى الأخبار
أستونة تحيي احدى الحفلات وللسودانيين في مصر مقاه خاصة بهم خاصة في وسط البلد مثل مقهى “جي جي”، و”فنون”، فضلا عن العديد من المقاهي الملحقة بالمطاعم السودانية التي تجمع الأغلبية منهم وتجد السودانيين يجتمعون يوميا مساء في هذه المقاهي يشربون الشاي ويتحدثون في السياسة والرياضة حتى بعد منتصف الليل، بعدها يتجمعون في منزل أحدهم ويواصلون “الونسة”، وليس هناك ما يمنع العُزاب من المبيت في أي بيت يسهرون فيه، وإذا أردت أن تعرف أي معلومة عن السودان ستجدها في أحد هذه المقاهي.
ويوجد في القاهرة وحدها أكثر من 30 مطعماً سودانياً منها 5 مطاعم في وسط البلد، والبقية موزعة على مناطق أرض اللواء والمعادي وعين شمس والدقي، وهي مطاعم مزدهرة وناجحة نسبة لإقبال السودانيين واهتمامهم بأكلاتهم الشعبية التي تصنع بالطريقة السودانية، وهناك العديد منها يقدم خدمة التوصيل للمنازل، والمطاعم السودانية تقام علي جزءين، أحدهما لبيع وتناول الطعام، والآخر لتقديم الشاي والقهوة السودانية، وتعتبر محال تجمعات كبيرة للسودانيين، فبوجودك داخلها تستطيع أن تعرف كل الأخبار المتعلقة بالسودانيين بأسرع فرصة ممكنة، وعلى أبواب هذه المطاعم تجد الملصقات التي تعلن عن الحفلات السودانية أو أي فعاليات تهم السودانيين في مصر.
طقوس وأفراح وبرامج ربط وطنية
سوداني يمارس احدى المهن والسودانيون الأسبق حضورا إلى مصر بينهم عدد كبير ممن يعملون في وظائف جيدة في القطاع الخاص المصري، أما الجالية الحديثة فأغلبها يعيش على الإعانات التي يرسلها الأهل أو الأصدقاء الذين يعيشون في دول أجنبية، بينما هناك عدد كبير ممن وفدوا خلال العشرين عاما الأخيرة يعملون باعة على أرصفة العتبة وبعض المناطق الشعبية في مصر.
والسودانيون عامة من الجالية القديمة أو الحديثة في حالات الأفراح والأتراح يمارسون نفس الطقوس التي تمارس في السودان، مثلا في الزواج تقام ليلة الحناء ثم السيرة والصبحية، ويحيي حفلات الفرح مطربون سودانيون مقيمون في مصر بشكل دائم ويمارسون نشاطهم من خلال الأندية السودانية منها دار السودان، جمعية صاي الخيرية، النادي السوداني بعين شمس، والنادي السوداني بالجبل الأصفر، كما هناك ارتباط وثيق بين السودانيين والنوبيين في مجال الغناء والموسيقى، حيث اعتاد النوبيون الاستماع للأغنيات السودانية؛ لذلك تجدهم مع السودانيين في فرقة واحدة في نادي الفنان النوبي علي كوباني.
وما يلفت النظر أن كثيرا من شباب الجالية السودانية تزوج وأنجب ولم يزر السودان مطلقا، لذلك تقوم السفارة السودانية ومكتب المؤتمر الوطني بالقاهرة بتنظيم رحلات لهؤلاء الشباب للتعرف إلى وطنهم، كما تقوم الخطوط الجوية السودانية بتخفيضات تصل إلى 50 % من قيمة تذاكرها لأبناء الجالية لتسهل لهم فرص زيارة الوطن.
العربية نت