قدم لي تلميذي البروفسير الأمين أبومنقة مقالاً (بغير عنوان) لم ينشر، وطلب إلى التعليق عليه. فأثار المقال فيَّ خواطر (لغوية) شتى رأيت أن أكتبها في هذه العجالة، وجعلت عنوانها:( الفلاتة ولغتهم). وقارنت ما آلت إليه لغتهم مع لغة الدناقلة والنوبيين.
لم يختلف الناس في أسماء قبيلة إفريقية ولغتها كاختلافهم في أسماء قبيلة الفلاتة ولغتهم. ولم تنتشر قبيلة في أركان أرض إفريقيا من البحر الأطلسي إلى البحر الأحمر كانتشار قبيلة الفلاتة. ولم يختلف الناس في أصل قبيلة إفريقية كاختلافهم في أصل قبيلة الفلاتة. ولم تنصهر قبيلة في المجتمع الذي تعيش فيه كانصهار الفلاتة في المجتمعات التي يعيشون فيها. ولذلك يكتنف الغموض لدى العامة والخاصة في مفهوم (الفلاتة).
في كل منطقة من مناطق إفريقيا غرباً وشرقاً لهم اسم مختلف، وللغتهم أسماء مختلفة، والمفهوم لدى العامة في السودان أن كلاً من يأتي من غرب إفريقيا هو (فلاتي) وهو تعميم خاطئ يضاف إلى اختلاف فهم الناس عنهم. فهم (فلاتة)، و(فولاني)، و(تكارنة)، و(تكرور)، و(فلا)، و(بيول)، و(فلبي)، و(تورب)، والاسم الأخير أطلقه عليهم الشيخ عثمان بن فودي. والرعاة منهم في السودان يسمون (أمبررو). وإذا صح قول العرب إن كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمى فهم عظماء، و(العظيم) له معانٍ مختلفة منها الإيجابي والسلبي. ومن أسماء لغتهم (فلاني)، و(فلفلدي)، و(بولار)، و(فلا).
أما أصلهم، فكما يقول البروفسير أبو منقة (هنالك ما لا يقل عن عشر نظريات حول أصلهم، فقد نسبوا إلى اليهود والسوريين، والقوقاز، والهكسوس، وقدماء المصريين، والأثيوبيين، والروم، والنوبة، وحتى الملايو!!! والشيخ عبد الله بن فودي ينسبهم إلى عقبة بن نافع، الذي فتح بلاد المغرب إِبان حكم عمرو بن العاص. كما نسبوا إلى جعفر بن أبي طالب.
والشيء المؤكد حول لغتهم أنها افريقية، وتنتمي إلى فصيلة لغات (النيجر-كنغو)، المتفرعة من الأسرة النيجر-كردفانية، التي تضم لغات مثل الولوفية في السنغال، ولغة الزاندي في السودان والكنغو، واللغات البانتوية (مثل السواحيلية) في إقليم شرق إفريقيا، ولغة الكواليب في جبال النوبة. الغريب في أمر الفلاتة ولغتهم أن كل النظريات العشر التي تنسب الفلاتة إلى أصول عرقية خارج إفريقيا يدحضها أن لغتهم لا تنتمي إلى أية أسرة لغوية حامية سامية،بل توغل في الأسرات الافريقية (البانتوية). فإذا صح أن أصولهم العرقية تنسب إلى أي أصول اثنية خارج افريقيا فهذا يعني أنهم تخلوا عن لغة أصولهم (غير الإفريقية) واكتسبوا لغة بانتوية. أما كيف تم ذلك فهذا أمر لا يعلمه إلاَّ الله.
إلا أنّ الذي يبرر نسبتهم إلى أصول (غير إفريقية) هو سحنتهم (غير الزنجية) سواء في لون البشرة أو في تقاطيع الوجه ورقة الشفاه، ودقة الأنف. والشيء الثالث المؤكد أيضاً هو أن نسبتهم إلى أي من الأجناس التي ذكرت أمر (غير مؤكد). وقد احتفظوا بسحنهم (غير الأفريقية) رغم اختلاطهم بمختلف الأجناس الإفريقية. مع أنهم وجدوا في أرض إفريقية قبل آلاف السنين، ووصفهم المؤرخ المصري حسن إبراهيم حسن، وابن بطوطة، والرحالة بارث، وجونسون بأنهم (قوم شبه بيض، سحنتهم عربية)!!!
ومن شدة انصهارهم في المجتمعات التي يعيشون فيها أن معظمهم يتبنَّى لغة المجتمع الذي يعيشون فيه وينسون لغتهم (الفلاني). كما أنهم يتسمون غالباً بأسماء المجتمعات التي يعيشون فيها، وبذلك يصعب تمييزهم عن غيرهم في المجتمعات التي ينصهرون فيها. واختلفت لهجات لغتهم على ألسنة المتحدثين بها في شرق إفريقيا وغربها إلى درجة أن بعض هذه اللهجات لم تعد مفهومة للمتكلمين بلهجاتها الأخرى، على غرار ما حدث للغة الدنقلاوية والنوبية.
أما استقرارهم في السودان فيرى البروفسير الأمين أبو منقة أن من الصعب تحديد تاريخ بداية استقرارهم في سودان وادي النيل، وأن (بلفور بولس) يرى أنهم أصيلون في دارفور، وأن استقرارهم في بقية مناطق السودان يرجع إلى عدة عوامل أهمها الحج والهجرات الدينية، والأخيرة تمثلها هجرة السلطان (مي ورنو) حفيد الشيخ عثمان بن فودي في مطلع القرن التاسع عشر، الذي استقرت جماعته في البلدة التي أصبح اسمها (مايرنو) وما جاورها من قرى. وقد انصهر معظمهم في المجتمعات السودانية، وانفصلوا عن جذورهم الاثنية، وإن احتفظت مجموعات منهم بلغتها (الفولانية). وفي السودان يتحدث معظمهم الآن العربية لغة أماً، كما كان يتحدث كثير منهم الهوسا في نيجيريا لغة أماً أو لغة ثانية. وهنا نذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ليست العربية فيكم من أب أو أم، إنما العربي من تكلم العربية)، أي تكلمها كما يتكلمها العرب، دون لوثة (لكنة). وكلمة الهوسا في نيجيريا لم تعد تعني قبيلة الهوسا، بل تتضمن كل من يتكلم الهوسا ممن ينحدرون من أصول مختلفة، إلا أنهم صاروا هوساويين لغة وثقافة.
ومن الخلط الذي نراه في السودان إطلاق كلمة (فلاتة) على كل المجموعات الإفريقية ذات الأصول (الغرب-افريقية). فسكان عشش فلاتة الذين نقلوا إلى حي (الإنقاذ) كانوا يمثلون مختلف القبائل الإفريقية، والسيدة/ كلوتيد نصري كنعان، في بحثها الذي كتبته عن قبائل الفلاتة في السودان، ونشرته عام 1960 في مجلة (المجلس) التي كانت تصدرها الحكومة المحلية آنذاك، قد أطلقت كلمة (فلاتة) على كل المقيمين في عشش فلاتة، وصنفتهم في ست مجموعات، هي: بلالا، برنو، باجرما، برقو، هوسا، وكاتاكو (كتكو). وإذا كان ذلك الخلط جائزاً في لغة العامة فإنه غير جائز في الوثائق الرسمية أو في البحث العلمي. أما بالنسبة للباحثين وطلاب العلم، فإن هذا الخلط يجعل دراستهم غير علمية وغير دقيقة، كما إنه قد يضر (سياسياً) لما يحمله من مدلول اجتماعي يخرجه عن العدالة الاجتماعية والدقة العلمية. والأنسب في رأيي أن تسمى هذه القبيلة (الفولاني) بدلا من (الفلاتة)، وهو الاسم الأكثر شيوعاً واستخداماً في المجالات العلمية، ويزيل الخلط بأية قبيلة أخرى. وفي تقديمي لكتاب د. إبراهيم محمد أحمد البلولة وعنوانه: (هجرة الفلاتة من غرب إفريقيا ودورهم التنموي بولاية سنار) قلت «إن إسهام الفلاتة في تنمية الاقتصاد السوداني ليس فقط في الزراعة والتجارة، بل بانصهارهم في المجتمع السوداني الذي أصبحوا جزءاً منه في الخدمة المدنية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية والتعليمية.ومنهم ومن غيرهم من العناصر البشرية المحلية والتي وفدت من القارات الأخرى تشكَّل السودان المعاصر».
وقد آن الأوان لتصحيح كثير من المفاهيم الخطأ في تسمية العناصر التي يتكون منها المجتمع السوداني. فليس كل من كان أصله من غرب إفريقيا (فلاتياً)، مثلما لا توجد قبيلة تسمى (الدناقلة) بل هي نسبة للمكان، كما نقول فلان (كردفاني) و(كسلاوي)، اللهم إلاَّ إذا قُصد بذلك نسبة الإنسان إلى المكان كما نقول (جنوبي)، وهو أمر لا غضاضة فيه. أما نسبة اللغة (الدنقلاوية) إلى دنقلا فهي نسبة صحيحة لأنها نسبة إلى المكان لأن العرب البديرية والجوابرة أو الجابرية وغيرهم من سكان دنقلا كانت لغتهم عندما قطنوا دنقلا لأول مرة (العربية)، وتحدث أبناؤهم (الجيل الثاني) اللغة النوبية الموجودة آنذاك، وانحرفت النوبية على ألسنتهم، كما انحرفت العربية في الجنوب (عربية جوبا). وبمرور الزمن انفصلت اللغة الدنقلاوية عن النوبية، فصارت أولاً لهجة من لهجات النوبة (المكسرة) ثم تطورت في اتجاه أبعدها أكثر عن النوبية في المفردات والتراكيب، حتى أصبح التفاهم بين المتكلمين بالنوبية والدنقلاوية متعذراً. وصارت الدنقلاوية لغة قائمة بذاتها تنتمي عرقياً إلى اللغة النوبية، كما تنتمي عربية جوبا عرقياً إلى (العربية). أما الجيل الثالث من البديرية والجوابرة فكانوا يسمعون ويفهمون اللغة العربية من الجيل الثاني، ولكنهم لا يتحدثونها، وتغلبت عليهم اللغة الدنقلاوية التي أصبحت لهم لغة التخاطب والتواصل، وتعذر عليهم الحديث بالعربية التي يتكلمها آباؤهم، وبذلك اختفت العربية وحلت محلها الدنقلاوية. واستمر الحال هكذا إلى يومنا هذا. ولكن أبناء الجيل المعاصر الذين انحدروا من المتكلمين بالدنقلاوية، الذين اكتسبوا العربية وصارت لهم لغة أماً (أمثالي)، فقد استعادوا لغة أجدادهم الأوائل. ومثلهم في ذلك مثل الفلاتة الذين أصبحت لغتهم اليوم العربية ولا يتكلمون اللغة الفلاتية (إذا صح أنهم سلالة عقبة بن نافع أو جعفر بن أبي طالب). ونجد أمثلة لذلك في أبنائنا في المهجر (في أوروبا وأمريكا)، وكذلك أبناء النوبة الذين هُجَّروا في الخرطوم وأصبحت العربية اللغة الأم بالنسبة إليهم، بعد أن فقدوا لغة آبائهم وأجدادهم. ولذلك تعتبر اللغتان النوبية والدنقلاوية من اللغات الآيلة للانقراض لانحسار المتكلمين بهما بالتدريج. وهم الآن يحاولون تعليم أبنائهم النوبية(كلغة أجنبية). ولدينا الآن لجنة تضع لهم مقرراًً لتعليم أبنائهم اللغة النوبية (كلغة أجنبية).على أن استعادة اللغة النوبية لسيادتها مرة أخرى يحتاج إلى تضافر عدة عوامل قد لا تتوافر لأبناء النوبة اليوم. فاليهود قد استعادوا مجد اللغة العبرية لأنهم ربطوها بالدين وبالتوراة، وارتباط المسلمين (غير العرب) باللغة العربية أقوى باعتبارها لغة الدين والمجتمع ولغة الاقتصاد والثقافة، وهذا يضعف التنافس بين العربية والنوبية. ولكن هذا لا يمنع التشبث بثقافة الأجداد ولغتهم إرضاء للطموحات الثقافية حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وتبقى الحضارة النوبية (والمروية) القديمة جزءًا من حضارة السودان الحديث.
والله أعلم
يوسف الخليفة أبوبكر
الراي العام