ولعل سوء الحظ هذا يبرَّر عندما نعلم أن رموز السفارة وحركة «فتح» قرَّبوا محتالاً محترفًا، ولصًّا سابقًا ومجرمًا يقتل بدمٍ بارد.
جاء المقاول الفلسطيني إياد الغفري إلى السودان قبل أكثر من عامين فارًّا من الملاحقة التي يخشاها بعد عملية نصبٍ كبيرةٍ ارتكبها في غزة، واختلس مالاً يقدَّر بحوالى «70» ألف دولار أمريكي، وكان يعرف بنزقه وعصبيته ورأيه الذي لا يقبل النقاش، إضافةً إلى صعوبة بالغة في التعامل معه، قبل أن يصبح قاتلاً من الطراز البشع عند ارتكابه جريمةً أثارت الرأي العام السوداني برمته اخيراً.
الفتحاوي الغفري وجد طريقه إلى باب السفارة ممهدًا ويسيرًا، وصار الغفري يعمل على حشد العمال الباحثين عن عمل.
المقاول الغفري صار يتاجر في الأخشاب، والغريب أنه يبيع الأخشاب بسعر أقل من سعرها في السوق بكثير، بل أقل من سعر الشراء!!.
يزول العجب عندما نعرف أن الغفري كان يشتري الأخشاب بالدَّين، ويَعِدُ التجَّار الذين يشتري منهم بسداد ما لهم من مالٍ خلال فترة يكون خلالها قد باع الخشب، ثم يأكل مال الناس بالباطل، ولا يعطي التجار أموالهم، ومن هنا بدأت المطالبات بالمال الذي أخذه من التجار.
مع دخول هذه المرحلة بدأ التخطيط للجريمة أو للجرائم، والتفكير فيما بعد ذلك، وعليه تقدَّم الغفري بأوراقه لإنجاز معاملة الخروج من السودان، كما حصل في الخرطوم على تأشيرة عمرة يدخل بموجبها الأراضي السعودية، وتأتي هذه الخطوة -حسب التحقيقات- في سياق ضمان استطاعة المجرم من الفرار؛ إذا شعر أن أمره سوف ينكشف، كما تأتي دليلاً على أن الجريمة التي نفذت كانت مع سبق الإصرار والترصُّد.
ويزيد هذا القول تأكيدًا أن المجرم كان قد دعا بعض عمَّاله، وطلب منهم تعليمه كيف يفتح البئر، زاعمًا أن صاحبة الدار التي يسكن فيها طلبت إصلاحها، وأن هذه الآبار غير موجودة في فلسطين وهو لا يعرف كيف يصلحها، وجاء العمال وفتحوا له البئر، ثم طلب منهم المغادرة لأنه يعرف كيف يكمل إصلاحه.
مجرم محترف
أحد التجار جاء إلى الغفري مطالبًا بماله، وعلى ما يبدو كان المبلغ الذي طلبه التاجر متوافرًا لدى الغفري فأعطاه إياه.
أما التاجر بكري المعروف بصلاحه وتقواه وانتمائه الإسلامي، والذي كان قد أكرم إياد الغفري وتعامل معه كأخ كبير، وأدخله بيته وأطعمه من طعام أهله، فقد باع الغفري أخشابًا تعادل «100» ألف دولار أمريكي، وجاء بكري إلى الغفري مطالبًا بما له من مال، وما كان من المقاول الغفري إلا أن أكد للتاجر السوداني أن ماله جاهز، ودعاه إلى بيته لأخذ المال.
ذهب بكري إلى بيت الغفري، جلس في غرفة استقبال الضيوف، وشرب القهوة دون أن يدري بالمخدر عالي التركيز الذي وُضعَ له في الفنجان، دخل بكري على إثر القهوة المخدرة نومًا أقرب إلى السبات، وغيبوبة لا يشعر بعدها بشيء مما يجري حوله.
أوثق الغفري ضحيته بالحبال،وخنقه حتى الموت قبل أن يكسر عنقه.
وإمعانًا منه في الإجرام، لم يكتف الغفري بقتل الضحية، بل جاء بكمية كبيرة من الأسيد الحارق وسكبها على جثة المغدور، ولم يحترم حرمة الجثة؛ إذ ألقاها محروقة في بئر للماء غير الطاهر يبلغ عمقها «40» مترًا.
بدأ أهل المغدور يسألون عن سبب غيابه، وقدموا مذكرة بحث عنه إلى الشرطة السودانية، ثم تحول الملف إلى المباحث، التي راجعت مكالماته الهاتفية، ووجدت أن الاتصال الأخير كان بين المفقود والمقاول إياد الغفري.
استدعت المباحث السودانية الغفري وحققت معه، واستطاع المراوغة ببراعة، فعاد إلى بيته وظل تحت المراقبة، وفكر في الخروج من السودان، غير أن المفاجأة التي لم يكن يتوقعها أن معاملة الخروج من السودان التي كان قدم أوراقه لها تعثرت، فلم يستطع مغادرة السودان بشكل قانوني.
استطاع إياد الغفري بخبرته والتدريبات التي حصل عليها في هذا المجال أن يفلت من المراقبة، وأن يستأجر سائقاً وسيارة يسافر بها إلى إثيوبيا، فعلمت المباحث السودانية بالأمر، وتعاونت مع شركة الاتصالات التي حددت مكانه عن طريق جهازه النقال، وضُبط هاربًا على الحدود السودانية الإثيوبية.
وعند التحقيق معه في هذا المرة حاول الإنكار، ولكن الأدلة والقرائن حاصرته بشدة، فانهار واعترف بالجريمة التي ارتكبها بدم بارد. وقال عدد من الشهود الذين التقوا بالمقاول المجرم إنه كان بعد تنفيذ الجريمة النكراء بأقل من ساعة يمشي ويمارس حياته بشكل عادي، دون أن يظهر عليه أي تأثر بالجرم الذي ارتكبه، في حين أكد التحقيق أن المجرم متدرِّب ومحترف، وأن هذه الجريمة لن تكون بهذه البشاعة والجرأة لولا أن القاتل كان متدرٍّبًا وخبيرًا وقاتلاً بدم بارد.
استياء شعبي
بدأت الصحف السودانية تتعاطى مع الخبر بغضبٍ مشوبٍ بالحذر؛ فلم تذكر أن القاتل فلسطينيٌّ إلا في ثالث أيام الجريمة التي هزَّت أرجاء الخرطوم، ثم بدأت الصحف تكتب تفاصيل الجريمة وتهاجم تصريحًا وتلميحًا الأجانب بشكل عام، وبالأخص العرب، وبالأخص الجالية الفلسطينية في السودان.
ومن جهته أكد شقيق المجنى عليه أنهم لن يأخذوا الشعب الفلسطيني البطل بجريرة هذا المجرم، موضحًا أن أكثر ما ساء أهل المجني عليه أن المجرم الغفري كان يأتي إلى بيتهم ويأكل ويشرب معهم، وكانوا يعاملونه كأخٍ لهم، ويحسنون معاملته أكثر لأنه من غزة التي وقف الشعب السوداني بكل ألوان طيفه السياسي معها في الحرب، وكان مستعدًّا لبذل المال والأرواح فداءً لها.
وبلغ الاستياء عند أهل منطقة الجريف التي يسكن فيها القاتل حدًّا كبيرًا جدًّا، وأبلغ أهل المنطقة السلطات أنهم لو أحضروا المجرم لتمثيل الجريمة فلن يخرج منها حيًّا، حتى لو أدَّى ذلك إلى اشتباكٍ مع الأجهزة الأمنية السودانية نفسها.
الجالية تتبرَّأ
ومن جهتها وزَّعت الجالية الفلسطينية في السودان بيانًا أكدت فيه أنها تتبرَّأ من فعل هذا المجرم، وأن الشعب الفلسطيني بريء من إجرام الغفري وأمثاله، مطالبة بالقصاص العادل من الغفري.
كما رتبت قيادة الجالية الفلسطينية لقاءً مع أهل المجني عليه للقيام بواجب العزاء، موضحة أن الجالية تستنكر الجريمة، وتطالب بالقصاص من المجرم؛ حيث ذهب وفدها إلى أهله، وأوضحوا أنهم ما أتوا لطلب الصلح أو العفو، بل لأداء واجب العزاء أولاً ثم لتأكيد رفض الشعب الفلسطيني واستنكاره هذا العمل، وطلبه القصاص، وأنها تتأذَّى من هذه الأعمال كما تأذى أهل القتيل وأكثر.
وفي اليوم الثاني أجرى ممثل الجالية الفلسطينية في السودان اتصالاً هاتفيًّا بشقيق المغدور وأبلغه أن الجالية أصدرت بيانًا تستنكر فيه ما حصل، وأبلغه أحر التعازي من الدكتور أحمد بحر الذي اتصل من غزة لمواساة أهل الفقيد وتعزيتهم بالنيابة عن الشعب الفلسطيني؛ الأمر الذي لقى ترحيبًا كبيرًا وأثرًا طيبًا في نفوس أهل المغدور.
صحيفة الراي العام
هادية صباح الخير