ملت على صديقة طفولتنا وجارتنا التي كنا في ضيافتها وسألتها في حيرة:
يختي ديل ياهم المغتربيين ذاااتم الكنا قاعدين نلاقيهم جوة في جّدة ؟
أجابتني بأن (كلنا وكت نجي نرجع السودان بنحت شقا الغربة ونلبس آخر ما عندنا، ما تشوفي الجماعة ديل وتعجبك نورتم .. دي نورة الساونا وأجرك علي الله) !
عندما تجبرك الظروف للسير بين (جخانين) أحد أسواق مدينة (جدة) الشعبية .. (الحراج) أو (باب شريف)، قد يلتبس عليك الأمر فتحسب انك لم تغادر بلدك السودان، فـ الحر حر بورتسودان أما الملامح والوجوة السمراء التي أجهدها الكد وغطّاها شقاء الغربة بالغبرة، فتجعلك تكاد تجزم بانك تسير بين زقاقات (سوق ليبيا)، وأن من حولك إنما هم طلّاب اللقمة الحلال الباحثين عنها في شقوق الرزق الضيقة .. هنا أو هناك فـ الحال واحد
ربما لا يماثل الوجود المكثف للسودانيين المتواجدين في بقالات ودكاكين وأسواق مدينة (جدة) غيره من تجمعات سودانيين الخارج، إلا هؤلاء الذين يسعون بين شوارع العتبة ومقاهي الحسين وحي عابدين في مدينة القاهرة، غير أن الكثيرين من سالكي دروب وشعاب (جدة)، رسم الزمن على ملامحهم قناع من الرهق والمعاناة، وحالهم مِن حال مَن غني:
(أنا حالي في بعد الوطن .. دفعني ضي العين تمن) ..
جاءتني مكالمة تلفونية أصر صاحبها على أن يوصل لي صوته .. أخبرني أن كل ما كتبته عن المغترب (جاد الله)، الذي صرف كل شقا سنين غربته في تحقيق آمال وأحلام الأخرين، وعاد ليبدأ حياته من جديد وإن لم يتخل عن طبعه المحب للجود بالموجود ولا تهنأ له اللقمة (في لقا في عدم) دون أن يتشاركها مع غيره .. قال لي صاحب المكالمة أنني كنت وكأنني أحكي عنه بصورة شخصية، فقد كان هو أيضا (خيرو لـ غيرو) يشقى ليحقق أحلام آله وذويه طوال السنين التي عاشها في غربته، قبل أن يضع حدا لنزف المعاناة ويركب أول طائرة ليعود ..
يسافر السوداني للخارج وكاهله ينوء بحمل عبء المسئولية عن تحقيق كل أحلام أحبته الممكنة وبعض أحلامهم الجميلة والمستحيلة .. يحمل حب الوطن ويذهب بعيداً ليبدأ في تكوين نفسه، ولكن بعد مرور السنين يكتشف أنه قام بـ (تكّوين) الكل إلا نفسه .. ويكتشف أنه سافر بعيداًً ليهرب من البلدة الطاردة لعرق بنيها وخبرات سواعدهم السمراء، فيجد أن معاناته الحقيقية قد بدأت يوم أن غادر ليلحق بـ قطار الهم ..
يشترك مغتربينا في القبل الأربعة في حمل الهم عن القدامهم ومن تركوهم وراهم، ويحلمون بيوم العودة عندما ينصلح الحال ويعادل الجنية الدولار، ولكن مغتربين السعودية بصورة خاصة حالهم يحنن الطير في سماه، فهم فوق للعليهم رهيني المحبسين لا يجدون وسيلة ترفية عن أنفسهم سوى مصاقرة الزوجات والتلفزيون ومتابعة تنطيط العيال بين أرجاء الشقة بصبر أيوب، أما العزّاب من الشباب فهم يعانون حالة من الدبرسة وعدم الموضوع وعدم الإنسجام مع من حولهم .. فالمغترب الشاب الذي تعود على زيارة الخالات والعمات والأهل، وعلى قعاد الضللة وونسة المغارب جوار دكاكين الحي، يقبع في غرفته بعد حضوره من الدوام مجهدا ليقضي ليلته مع التلفيزيون لا يخرج من غرفة السكن إلا لشراء الأكل من المطاعم أو التنقل بين واجهات المحلات التجارية، علّه يجد في ملاقاة الوجوه السمراء بعض العزاء، وربما شغل نفسه بشيء من المشاغلة ومراقبة الحسان .. بتحصل ما تنكروا !
لم تعد تبهرني هيئة مغتربينا في المطارات ، بعد أن خبرت عنهم – بالمعايشة – أن الكثيرين منهم عندما يعزمون على العودة في الاجازات يرتادوا مراكز الساونا والتجميل لزوم الصنفرة وحك الكدوب، لا ليكذبوا بل ليجملوا الواقع الاليم .. ليس من باب (شوفني) والتي تحصل فقط من بعض المنفصمين، ولكن حتى لا يشعرون احبابهم بمعاناتهم وأنهم كانوا في ليل غربتهم مجرد شمعات تضيء لتنير الطريق لـ عقابهم الباقين.
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com