رب أشعس أغبر

[ALIGN=CENTER]رب أشعس أغبر ![/ALIGN] في حقبة من حقب الزمان الغابر، وفي واحد مدن الأقاليم النائية، سكن مجموعة من عُزّاب التجار القادمين من مختلف البقاع، والذين رمى بهم السعي لكسب العيش للعمل بالتجارة في تلك المدينة، فاجتمعوا للسكن معا في بيت من بيوت احيائها الطرفية الهادئة .. كان القاسم المشترك لهذه المجموعة من التجار أنهم من الشباب المغامر المنغمس في ملذات الدنيا، وزادهم (في العليهم) بعدهم عن رقابة أهاليهم، فكان نهارهم للسعي والكسب وليلهم للطرب والانبساط، وكثيرا ما فاض بهم كيل (المعبار) فتعالى صياحهم وشقت أصوات مجونهم أستار الليل وصمت السكينة التي تحيط ببيوت الحي ..
كحال بيوت العزّاب التي تقع وسط الكيانات الأسرية، تجنب أهل الحي الاختلاط بتلك المجموعة إلا من معاملات البيع والشراء مع (اليماني) صاحب الدكانة الوحيدة في الحي، وشيخ (زكريا) امام الزاوية الذي لم يفتر من مناصحتهم – كلما وجد فيهم الفرصة – ومحاولة جر أقدامهم للزاوية التي يقيم فيها أهل الحي صلواتهم ..
مرّ عام وبعض عام على وجود هؤلاء الشباب في الحي، فتعود الناس على ضوضائهم الليلية ووطّنوا أنفسهم على الصبر والرضا بـ (جيرة السوء) عسى أن يهديهم الله أو تأتي مصيبة لتأخذهم، ولكن مرت بضعة أسابيع أفتقد أهل الحي أؤلئك العزّاب، فعلموا أنهم قد سافروا لإستجلاب بعض البضائع من مدينة مجاورة، ولكن بعد عودتهم من السفر لاحظ الجيران الصمت والهدوء الغريب الذي صار يخيّم على ليل العزّابة، فتحيروا من السبب الذي غيّرهم وجعلهم يتركون عادتهم وقلل انبساطتهم، ولكن شيخ (زكريا) هو أول من انتبه لأنهم ينقصون واحدا، وعندما سألهم عنه، علم أن السبب في الصمت الذي ران على لياليهم، إنما كان حزنا على موت صاحبهم في الطريق بين المدينتين، واضطرارهم لدفنه في مكانه لبعد المسافة ومشقة السفر على ظهور البغال والحمير ..
في ذات مساء وبعد أداء شيخ (زكريا) العشاء جماعة مع رجال الحي، إتجه لبيت العزّابة ولأول مرة طلب الأذن بالدخول عليهم .. جلس يتبادل معهم أطراف الحديث وهم في حيرة من تلك (الشقّة) الغريبة، إلى أن تحمحم وسأل:
طبعا دايرين تعرفوا سبب جيتي ليكم .. والله أنا أمبارح في المنام شفتا أخيّكم المرحوم في المنام .. وسبحان الله شفتوا في حالةً طيبة خلاس ….
تلعثم الشيخ لحظة ثم واصل في الحديث:
ما تآخذوني يا أولادي .. لكن أنا عارف الكنتو بتسو فيهو وطريقة عيشتكم .. عشان كدة احترت في العمل العملو أخوكم المرحوم وخلاهو ينزل في المنزلة الربنا أنزلو فيها دي ؟!
تحير الشباب من قول الشيخ فهم لا يعلمون شيئا عن آي عمل صالح، يمكن أن يكون سببا في مغفرة الله سبحانه وتعالى وتجاوزه عن ذنوب رفيقهم، فطلب منهم الشيخ أن يحكوا له بالتفصيل عن مرض رفيقهم ووفاته ومن صلى عليه منهم !
تبرع أحد الشباب وحكى عن الوعكة الشديدة التي أصابت رفيقهم في الخلاء، والتي انتهت بوفاته، ثم حكى عن الحيرة والارتباك الذي دخلوا فيه فلا أحد منهم كان يعلم كيفية تجهيز الجنازة ولا كيفية الصلاة على الميت أو طريقة الدفن الصحيحة، وأنهم ظلوا على حيرتهم تلك إلى أن لاح لهم من بعيد (عطوط) ذلك الاعرابي الدرويش الذي يسكن في طرف الحلة، ويعيش من جمع الحطب من الخلاء على ظهر ناقته وبيعه لأهل الحي ..
قال الشاب لشيخ (زكريا) أن (عطوط) قد برز لهم فجأة وكأن الأرض قد انشقت عنه، فاستنجدوا به لستر جنازة رفيقهم، فنزل عن ناقته وأمرهم بحفر القبر ثم استقبل بالجثمان القبلة وصلّى عليها ثم رفع أياديه للسماء ودعا بشيء لم يسمعوه ثم أشار للجثمان وعاد وأشار للقبر وبعدها أشار لناقته .. انتهى من دعائه وطلب منهم أن يتعاونوا على دفن الجثمان ثم ركب على ناقته وأنطلق ..
زادت حيرة شيخ (زكريا) أكثر، وعزم في نفسه على أن ينطلق بليله ليبحث عن (عطوط) ليسأله بماذا دعا ربه .. شق الشيخ القرية من أقصاها لأقصاها حتى بلغ راكوبة الاعرابي (عطوط)، فوجده يرقد على عنقريب هبّابي دون فراش .. حياه وجلس معه بعد أن استحلفه بالله أن يعلّمه ذلك الدعاء ويشرح له معنى اشاراته وحركات يديه فقال الاعرابي:
صليت علي المرحوم ورفعتا يدي للسماء ودعيت:
يا الله يا كريم يا منّان .. الزول ده جايك ضيف (وأشرتا للقبر) .. والله لو جاني أنا الفقير العدمان ضيف بضبحلو ناقتي الويحيدة دي وأكرموا .. دحين أكرم ضيفك يا غني ..

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

Exit mobile version