دعا أكاديمي متخصص المثقفين السودانيين للقيام بدور كبير في تعزيز الهويّة الموحّدة للدولة القطريّة السودانيّة وهي مقبلة على مرحلة تقرير المصير، وقال أستاذ التاريخ والحضارة بماليزيا البروفيسور أحمد إبراهيم أبوشوك إنّ اتفاقيّة نيفاشا التي انبثق عنها دستور السودان 2005م قد وفّرت الأساس النظري لتعزيز هويّة سودانيّة موحّدة تقوم على التراضي وتحل كل إشكالات الثروة والسلطة وتباين الأديان والأعراق ، لكنها لم تجد الإعلام اللازم. وتناول بروفيسور أبوشوك في ورقة “قراءة في تشكيل الهويّة السودانيّة” التي قدمها في المنبر الدوري لرابطة الإعلاميين السودانيين بفندق الستين بالعاصمة السعوديّة الرياض أمس مفهوم الهويّة والمراحل التاريخية التي ظهر وتطوّر فيها المصطلح، وأبان أنّ مصطلح الهُويَّة يشير إلى وعاء الضمير الجمعي الذي يستند إلى ثلة من القيم، والعادات، والتقاليد، والمعتقدات التي تميز كلّ مجموعة بشرية عما سواها، وتُسهم في الوقت نفسه في تكيف وعيها الذاتي وتشكيل طبيعة وجودها المادي والمعنوي في الحيز الجغرافي الثابت الذي تشغله، والبُعد الزماني المتغير الذي تعيش فيه.”
القوميّة والوطنيّة ليسا مترادفين
وقال أبوشوك في تحليل التعريف : ” إننا بهذه الكيفية نلحظ أن قضية الهُويَّة ترتبط بمصطلحين مفتاحيين هما: الوطنية والقومية. وكثير من الباحثين، كما يرى البروفيسور مدثر عبد الرحيم، لا يدرك كنه هذين المصطلحين، ويعاملهما من منطلق أنهما مصطلحان مترادفان، وبهذا الفهم الخاطئ يحدث نوع من الخلط المنهجي عند مناقشة قضية الهُويَّة،لأن الوطنية ترتبط ارتباطاً عضوياً بالحيز الجغرافي الذي يمثل الركن الأول لبناء الدولة القُطرية، والقاعدة التي يستند إليها الركنان الآخران: الشعب والسيادة (السلطة العامة). أما القومية فهي بمثابة الخيط الناظم لأفراد المجموعة البشرية (الشعب) ذات التاريخ المشترك، واللغة الجامعة، والانتماء العرقي، والاعتقاد الديني، علماً بأن قاعدة القومية أحياناً تتجاوز حدود الدولة القُطرية الواحدة، وتتعداها إلى أكثر من دولة، وأحياناً أُخر تضيق داخل وعاء الدولة القُطرية الذي يحمل بين ثناياه جملة من القوميات المتباعضة.”
حمزة الملك طمبل أوّل من نادى بهويّة سودانيّة موحّدة
وأوضح أبوشوك أن سؤال الهُويَّة السودانية سؤال قديم ومتجدد في أوساط القطاعات المثقفة السودانية، وأنّ الشاعر المجدد حمزة الملك طمبل يعتبر أوّل من طرحه ، حيث نادى بإحياء الروح السودانية في المنتج الأدبي الثقافي؛ ليكونَ له ذاته المميزة عن ذوات الآخرين، وخصَّ بالدعوة الشعراء الإحيائيين، أمثال محمد سعيد العباسي، ومحمد عمر البنا، وأحمد المرضي، لأنهم كانوا مولعين بتقليد العرب القدامى في مطالع قصائدهم، وفي مفاخرهم، ومبالغاتهم الوصفية في حقِّ الموصوف، والتي كانت لا تعكس واقع البيئة السودانية بصورة جليَّة، ولا تجسد قومية الشعر السوداني، وقال بروفيسور أبوشوك إنّ الدعوة لهويّة سودانيّة خالصة انتقلت من قومية الشعر إلى قومية الذات السودانية التي تَشكل طرفٌ من معالمها في أدبيات جماعة الفجر، وتحديداً في نزر من كتابات محمد أحمد المحجوب، وعرفات محمد عبد الله، ومحمد عشري الصديق، وفي أشعار محمد المهدي مجذوب لاحقاً.
1929م مقالة “ماذا وراء الأفق؟”
ويشير بروفيسور أبوشوك إلى أنّ مقالة محمّد عشري الصديق “ماذا وراء الأفق؟” التي نشرها في صحيفة حضارة السودان في نهاية أكتوبر 1929م كانت تدعو للتفاؤل بوطن واحد وهويّة موحّدة حيث جاء في المقالة عن الوطن بهذه الكيفيّة: “مَنْ قال إنه ليس بأمة؟ فليس هناك ما يمنع أن يكون كذلك في وقت قريب، فلا اختلاف أديانه، ولا اختلاف عاداته، ولا اختلاف شعوبه، ولا اختلاف أجوائه، وظروف المعاش فيه، بحائلة دون تحقيق هذه الأمنية العذراء. ليس يمكن أن تكون الأمم في بدء تكوينها غير ذلك: فالمصالح المشتركة، والتفاهم المتبادل، وأحداث التاريخ، وتُقرِّب شقة الاختلاف، وتصل الأبعدين برباط متين” وبالتالي فإنّ الدعوة لهويّة سودانيّة موحّدة كانت أمنية قديمة قبل الاستقلال بعقود.. ويشير بروفيسور أبوشوك إلى أنّ التطوّر اللاحق لدعوة التوجه القومي لدى حمزة الملك طمبل كانت قد تجلّت إشراقاتها في “تيار الغابة والصحراء” الذي برز إلى حيز الوجود في العقد السادس من القرن العشرين، بزعامة النور عثمان أبكر ومحمّد المكي إبراهيم ومحمّد عبد الحي وآخرين، وقد أُسس تيار الغابة والصحراء وفق منطلقات شعرية وثقافية، تنشد التصالح بين الثقافة العربية والثقافة الإفريقية في السودان. فالغابة كانت تعنى رمزية العنصر الإفريقي، والصحراء رمزية العنصر العربي
العودة إلى سنار ومثلث حمدي
ويشير بروفيسور أبوشوك إلى أنّ إشكاليّة قضيّة الهويّة قد بلغت ذروتها في مشروع “إنسان سنار” الذي نصبَّه الدكتور محمد عبد الحي ورفاقه الخُلاسيون إنساناً معيارياً لهُويَّة أهل السودان، لأن السلطنة الزرقاء من وجهة نظرهم كانت تجسد معالم التلاقح السياسي، والاجتماعي الذي حدث بين العبدلاب (العرب) والفونج (الزنوج)، والذي أفضى بدوره إلى تشكيل هُويَّة أهل شمال السودان ذات السحنة الخلاسية. ويؤكد أبوشوك بأنّ قصيدة العودة إلى سنار كانت قد وضعت الإطار النظري لمثلث حمدي قبل أن يظهر مصطلح المثلث بسنوات طويلة.
الآفروعربية و “تحالف الهروبيين”
ويرى بروفيسور أبوشوك إنّه وبعد تراجع وأفول نجم الغابة والصحراء بعد مضي سنوات التكوين الأولى ذات النزعة الثقافية، انتقل تطوّر مفهوم الهويّة إلى ظهور مصطلح الأفروعربية كمصطلح بديل فرضته إفرازات الصدامات الإثنية في داخل السودان وخارجه، وطرحه بعض المتأثرين بتداعيات ذلك الواقع ليكون بمثابة حلٍّ أثني واجتماعي وسياسي لمأزق الهُويَّة السودانية. وصاحب نشوء الأفروعربية تياران آخران، تواضعا على التشكيك في حجيَّتها، ومدى صلاحيتها كأسس للهُويَّة السودانية، بل وصفه بروفيسور عبد الله علي إبراهيم بأنها “تحالف الهاربين”لأنها تتوارى خلف المكون الإفريقي لتنال من قسط الثقافة العربية الإسلامية الأوفر حظّاً في السودان. وينفي أنصار هذا التوجه الرافض لشرعية الأفروعربية أهلية الأصل الإفريقي في شمال السودان الذي تسوده الثقافة العربية الإسلامية، متعللين بمناهج علم الإثنوغرافيا أو الأنثربولوجيا التي درجت على عدم مغالطة أهل الأنساب في أنسابهم، بغية حملهم على صواب يحسبه الباحث حقيقة مطلقة. وفي الاتجاه المعاكس قدح بعض المثقفين الجنوبيين في التركيبة الثنائية لتيار الأفروعربية، بحجة أنها لا تنطبق عليهم وعلى واقعهم المعيش، لأنهم قد احتفظوا بإفريقيتهم في صورها كلها، ولا يريدون أن يكونوا طبعة لاحقة لإنسان سنَّار الذي يمثل أساس التركيبة الهجينة للسودانيين الشماليين، وأن التمازج الثقافي بهذه الكيفية، من وجهة نظرهم، هو نوع من “الغش الثقافي لا الحوار”.
نظريّة قرنق : (س = أ + ب + ج)
ويرصد الباحث محاولات لتجاوز إشكالات الأفروعربية أظهرت في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي مصطلح “السودانوية”، الذي تبنته الحركة الشعبية لتحرير السودان في وثيقة إعلان تأسيسها عام 1983م، وشرحه الدكتور جون قرنق دي مبيور في شكل معادلة رياضية، تتكون من: (س = أ + ب + ج)، حيث تعني “س” الهُويَّة السودانية، و”أ” التنوع التاريخي، و”ب” التنوع المعاصر”، و”ج” المؤثرات الخارجية والتداخل الثقافي العالمي. وبذلك حاول مُنظِّر الحركة الشعبية أن يخرج من ضيق القوميات وإشكالاتها المصاحبة إلى سعة الإطار الوطني الخالي نسبياً من إيماءات التعقيدات الأثنية. ويورد أبوشوك تعليقاً للدكتور منصور خالد على هذا المنحى الإيجابي بقوله: “الحاضنة الثقافية للشخصية السودانية ليست هي العروبة ولا الزنوجة، وإنما السودانوية. كما أن القاع الاجتماعي للوطنية السودانية ليس هو الاستعراب أو التزنج، وإنما هو أيضاً السودانوية. السودانوية نتاج عروبة تنوبت وتزنجت، ونوبة تعربت، وإسلام وشته على مستوى العادات لا العبادات شية من وثنية”.ثم يمضي في الاتجاه ذاته، ويقول: “السودانيون، إذن، ليسوا قومية واحدة بالمفهوم الأنثروبولجي أو السلالي، وإنما هم شعب واحد بالمفهوم السياسي- تمازجت عناصره في فضاء جغرافي محدد، وأفق تاريخي معين، وكل واحد منها مزاج. […] فالخيار أمام مثل هذه المجموعات هو إما الانتماء للوطن انتماءً مباشراً عن طريق المواطنة ودستورها، أو الانتماء له انتماءً غير مباشر عن طريق هُويَّاتها الصُغرى، دينية كانت، أم عرقية، أو ثقافية. الانتماء الأخير وصفة لا تنجم منها إلا الكارثة؛ لأن التحصين بالهُويَّات الصغرى يفضي، بالضرورة، إلى إقصاء الآخر الذي لا ينتمي لتك الهُويَّة، وإقصاء الآخر يقود بالضرورة أيضاً إلى تقوقعه في هُويَّته المحلية المحدودة، وربما إلى إنكار كل ما هو مشرق في ثقافة من أقصاه، وسعى للهيمنة عليه. فالفريق المقصي لن يرى بمنطق ردِّ الفعل- في إبداعات الآخر أكثر مَنْ إنها وجهة من وجوه الهيمنة والإلغاء”.
أطروحة قرنق في تشريح عجب الفيّا
ويورد البروفيسور أبوشوك وصفاً للأستاذ عبد المنعم عجب الفيا يصف فيه أطروحة “السودانوية” بأنها مماثلة لأطروحة “الغابة والصحراء” من حيث الجوهر، ولا تختلف عنها سوى أنها طرحت الاصطلاح الجديد خروجاً عن ثنائية الأفروعربية، وبذلك اكتسبت أعضاءً جُدداً في الساحة السودانية، مثل: البروفيسور أحمد الطيب زين العابدين، والأستاذ كمال الجزولي، والدكتور نور الدين ساتي، والبروفيسور أحمد محمد علي حاكم، والدكتور عبد الهادي صديق. يقول بروفيسور أبوشوك : ربما يكون الأستاذ عجب الفيَّا محقاً فيما ذهب إليه؛ إلا أننا نختلف معه في توصيف النقلة الاصطلاحية المشار إليها؛ لأنها لا ترتبط فقط بتحسين صورة المصطلح الجاذبة، وإنما تدعو إلى انتقال معياري من وعاء القومية الضيق إلى وعاء الوطنية الأرحب، الذي ربما يُسهم في إصدار تشريع دستوري، يتواضع أهل السودان عليه لتجاوز خصوصياتهم المحلية، والعرقية، والدينية لحساب الوطنية العامة، وذلك بهدف الارتقاء بالهُويَّة الوطنية حضارياً وقيمياً، ثم إفساح المجال لمفهوم المواطنة القائم على حق الدم أو الأرض لينبسط بين الناس، ويكون وسيط تآلف بين المتنافرات.
دكتور حيدر إبراهيم .. تيار تصادمي
ومن خلال متابعته لآراء الباحثين إزاء أزمة الهُويَّة والدولة وفشل النخبة السياسية صنّف البروفيسور أحمد إبراهيم أبوشوك الآراء ضمن تيارين أحدهما تصادمي ، أُسست مفرداته على فرضيات تقود إلى حتمية انهيار الدولة السودانية، وطرح توفيقي تشبث بخيوط الأمل وفق قراءة جديدة لمفهوم الهُويَّة، وكيفية توظيفها لإنجاز مشروع دولة السودان الجديد.
ويأتي في مقدمة أنصار الطرح الصدامي ــ بحسب بروفيسور أبوشوك ــ الدكتور حيدر إبراهيم الذي يرى أن “الأزمة ليست في فهم الهُويَّة، ولكن في طرح سؤال الهُويَّة كأولوية في المشروع القومي السوداني، وأيضاً تكمن الأزمة في الطريقة التي طُرح بها السؤال، والظروف التاريخية التي جاء ضمنها. فالإجابات عن السؤال خاطئة؛ لأن السؤال في أصله خطأ. فمن البدء لا يوجد تعريف جامع، ومانع، وشامل، وعقلاني، وعملي للهُويَّة، ولابد من الوقوف على تعريف جوهري، وتجريدي، ولا تاريخي وثقافي”.ومن ثم يرى الدكتور حيدر أن النسبة إلى عروبة اللسان “حل هروبي”؛ لأنها لا تلبي متطلبات العقل الشعبي الذي نسب نفسه جزافاً إلى العباس، وأن الدعوة للأفريقانية دعوة جوفاء، لأنها تتخذ من الجغرافيا واللون أساساً لتعريف ذاتها، “فالهُويَّة الدينكاوية أكثر تماسكاً من أفريقانية بلا ضفاف”وبذلك يجرح الدكتور حيدر في مشروعية الأفروعربية كأساس لبناء الهُويَّة السودانية. وعليه يرى في وجود السودان على الخارطة السياسية مجرد وجود وهمي؛ لأن السودان من وجهة نظره لم تتبلور هُويَّته المزعومة عبر تراكم ثقافي تاريخي يصب في وعاء الوحدة والتوحد، بل جمع بين ثناياه متناقضات واقعه السياسي، والاجتماعي، والثقافي، والديني، فضلاً على أن النُّخبة المتعلمة لم تكن في مستوى ذلك التحدي لتحول “الوهم إلى حقيقة وواقع” لأنها أضاعت فرص المستقبل والانطلاق نحو الغد الأفضل في أكثر من مرة، ويذكر منها: الاستقلال، وثورة أكتوبر 1964م، وانتفاضة أبريل 1985م، واتفاقية السلام الشامل يناير 2005م.
دكتور الترابي يصفهم بالمنافقين
ويشترك مع الدكتور حيدر إبراهيم في رؤيته الصدامية ــ بحسب أبوشوك ــ الدكتور أسامة عثمان والدكتور النور حمد الذي يعتقد أن ” قيام أمة سودانية موحدة تحتكم إلى دستور يعطي الحقوق علي أساس المواطنة، وليس على أساس الانتماء الديني، أو السياسي، أو العرقي، أو الجندري، أو الجهوي، أو الطبقي.” بينما يصف الدكتور حسن الترابي أصحاب هذا التيار بقوله: “إن مناصري العلمانية منافقون، مارقون من بين صفوف المسلمين، لا يستطيعون الجهر بمعارضتهم للإسلام، بل يتصنعون الغيرة على حقوق المواطن السوية، وأنهم بحماية الأقلية غير المسلمة في الجنوب يريدون أن يلقِّنوا تلك الأقلية، لتعبَّر عن أهوائهم التي لا يستطيعون أن يفصحوا عنها فلا مندوحة أن مثل هذا الخطاب السياسي الجارح في شأن الآخر يغلق أبواب الحوار أمام الخصوم، ويفتح نوافذ للخصومة الفاجرة التي تتمترس في مصالحها القطاعية دون النظر إلى المصلحة العامة.”
الدولة الوطنيّة والتنمية
أما التيار التوفيقي ــ بحسم مقدّم الورقة ــ فينقسم إلى عدة تيارات ثانوية. يتصدرها تيار الدولة الوطنية والتنمية الذي يرفض سدنته صهر الهُويَّة السودانية في بوتقة الوسط التي تمثل بالنسبة لهم عملة واحدة، لها وجهان، هما: العروبة والإسلام. فثنائية العروبة والإسلام لم تكن من وجهة نظرهم وعاءً جامعاً لاستيعاب قوميات السودان المختلفة في فضاء وحدوي شامل، قوامه المواطنة وسداه احترام الآخر؛ فضلاً عن ذلك فإن هذه الانتقائية قد أفضت إلى تجاهل أهمية العلاقة الجدلية الرابطة بين الهُويَّة الديناميكية والتنمية المتوازنة. علماً بأن الحكومات الوطنية المتعاقبة قد تجاهلت وضع سؤال الهُويَّة في نصابه “السوسيولوجي والمعرفي لقياس العلاقة المتبادلة ودرجة الانتماء بين المواطن والدولة، لتحديد نصيب الفرد من الدولة – ثروة وسلطة وثقافة – ونصيب الوطن من عطاء بنيّه؟” وذروة سنام قولهم إن استقصاء كُنه الهُويَّة بهذه الكيفية سيؤدي إلى “تنمية الوطن، والمواطن، والدولة” تنمية مستدامة، ويعزز فُرص التوحد داخل وعاء الوطن الجامع، ويفعِّل تصالح المواطنين مع أنفسهم واعتزازهم بوطنهم الذي ينتمون إليه، بعيداً عن سجال النُّخبة المتعلمة حول مفهوم الهُويَّة القائم على ثنائية العروبة والإسلام، والذي أفضي إلى تفضيل السودانيين على بعضهم درجات فوق بعض. ويتوافق مع هذا الطرح التنموي للدكتور عبد السلام نور الدين والدكتور أحمد عثمان، الذي يصف جدل الهُويَّة بتياراته المتخاصمة بأنه ترف ذهني، لا يخدم مشروع الدولة السودانية، وتطلعاتها إلى النهضة والرُقي. ومن ثم يرى أن الارتقاء بالوعي الجمعي يجب أن يكون من خلال توسيع قاعدة التعليم بدرجاته المختلفة، والخدمات الاجتماعية الأخرى، والبحث العلمي الذي يؤطر لقيام “دولة حديثة، قوامها العدل والمساواة، واحترام حقوق الإنسان من حيث هو إنسان”، فالنتيجة الحتمية لمثل هذا التوجه المعرفي والخدمي ستتبلور، حسب وجهة نظره، في قيام “دولة المواطنة” التي تربو بنفسها عن “دولة العرق، والحسب، والنسب” الموروثة، وانسحاباً على ذلك ستنحسر مشكلة الهُويَّة وترف جدلها الفكري، وتغيب عن الواجهة السياسية حركات الهامش والأطراف المطلبية.
الصومال : هويّة واحدة ودولة متشظيّة!
وبحسب الورقة فإنّ التيار التوفيقي الثاني يتمثل في تيار الهُويَّة والديمقراطية، والذي يعزي أحد أنصاره، الأستاذ عبد العزيز الصاوي، فشل إنجاز مشروع الدولة السودانية في المقام الأول إلى فشل “النُّخبة السودانية في تأسيس مشروع الديمقراطية، الذي هو صنو لمشروع التنمية، كما أثبتت التجارب العالمية في الهند وماليزيا”. ويرى أن تمكين الديمقراطية وفق متطلباتها المتعارف عليها يُسهم في ترسيخ “الولاء للدولة السودانية في عواطف وأمزجة الجميع مهما اختلفت هُويَّاتهم، فليست وحدة الهُويَّة شرطاً لازماً للوحدة” ، ويعلل هذه الفرضية بواقع الحال في الصومال، حيث تتوفر المقومات الأساسية للهُويَّة الواحدة، لكن مشروع الدولة الصومالية لم ينجز بعد. ويبرئ الأحزاب السياسية والانقلابات العسكرية من ضعف التجارب الديمقراطية في السودان؛ لأنه يرى أن أسباب الضعف الأساسية تكمن في “انعدام البنية التحتيَّة للديمقراطية التي [تتمثل] في سيادة العقلانية والتنوير في المجتمع”؛ لأنهما يمثلان الركيزتين اللتين قامت عليهما الديمقراطية في الغرب، وأثبت نجاحها في محيط الممارسة السياسية. وبهذه الكيفية يختلف موقف الأستاذ عبد العزيز الصاوي عن موقف البروفيسور فرانسيس دينق الذي يرى أن أس المُشكل السوداني يرتبط بأزمة الهُويَّة، لأنها الأساس الذي يجب أن يستند إليه النظام الديمقراطي الرشيد، ومن ثم يجب أن يكون حسم أزمة الهُويَّة سابقاً لإنجاز مشروع الديمقراطية في السودان.
المزاوجة بين الهويّة والمواطنة
أما التيار التوفيقي الثالث ــ بحسب الباحث ــ فيتجلى في تزاوج الهُويَّة والمواطنة، إذ يقول أحد أنصاره، الدكتور نور الدين ساتي، الهُويَّة السودانية هي “سودانوية”، لا تميز فيها لأحد ببسب العنصر، أو الدين، أو اللغة، أو الثقافة، أو الجهة، وإن السودانوية هي البوتقة التي تتفاعل فيها كافة الانتماءات، وتتم فيها بلورة كافة الرؤى والمآلات. وبهذا التصور يكون التنوع مصدراً من مصادر الثراء، وليس سرطاناً ينخر في عظم الأمة، ويفت في عضدها”. وبذلك يرى الدكتور ساتي أن “الحلّ النهائي لقضية الهُويَّة هو الانتقال من التركيز المفرط على هذه المسألة كمسألة ثقافية إلى كونها ترتبط عضوياً بالمواطنة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات. ودولة القانون هي الفيصل في ذلك، فالمواطنة هي حلقة الوصل اللازمة بين الحقوق الثقافية، والدينية، والاجتماعية، وبين الحقوق السياسية، والدستورية، والقانونية. ولذا فأني أرى أن يأتي الحديث عن الهُويَّة دائماً مرتبطاً بالحديث عن المواطنة، وذلك لأنهما يتكاملان تكاملاً منطقياً، ويدعم أحدهما الآخر”. ويمضي في الاتجاه ذاته ويقول: إذا فشل السودانيون “في توصيف جدلية (الهُويَّة/المواطنة) توصيفاً صحيحاً بوصفها الوحدة البنائية الأساسية للمجتمع والدولة، فإنه يترتب على ذلك انهيار المشروع الوطني لهشاشة العنصر الأول من عناصره الأساسية، ألا وهو ما يمكن أن نسميه الحزمة البنائية (هُويَّة- مواطنة)، ولا يجدي بعد ذلك إن كان المشروع جذاباً في صياغته، أو أطروحته الأدبية، أو الأكاديمية، أو في مرجعياته الفكرية، أو المذهبية، أو السياسية إذا كانت تلك لا تستند إلى واقع معاش، أو تعوزها العناصر الأساسية الصالحة للبناء الاجتماعي”.
نيفاشا أجابت على معظم القضايا المثارة
وفي ختام ورقته توصّل البروفيسور أبوشوك إلى أنّ اتفاقية نيفاشا ودستور 2005م قد أجابا على معظم الإشكالات الواردة في قضيّة الهُويَّة ومشروع الدولة السودانية لأن المبادئ العامة الموجهة لهذا الدستور قد تصدت لكثير من الإشكالات المثارة وعالجتها بموضوعية. ويأتي في مقدمة هذه الإشكالات تحديد طبيعة الدولة السودانية بأنها “دولة مستقلة ذات سيادة، ديمقراطية لامركزية، تتعدد فيها الثقافات، واللغات، وتتعايش فيها العناصر، والأعراق، والأديان”. وتلتزم الدولة من جانبها “باحترام وترقية الكرامة الإنسانية، وتُؤسس على العدالة، والمساواة، والارتقاء بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وتتيح التعددية الحزبية”. ويصف الدستور القُطر السوداني بأنه “وطن واحد جامع، تكون فيه الأديان والثقافات مصدر قوة وتوافق وإلهام”، والسيادة فيه للشعب، “وتُمارسها الدولة طبقاً لنصوص هذا الدستور والقانون دون إخلال بذاتية جنوب السودان والولايات”؛ وإن وحدة السودان تُؤسس “على الإرادة الحُرة لشعبه وسيادة حكم القانون والحكم الديمقراطي اللامركزي والمساءلة والمساواة والاحترام والعدالة”، و”الأديان والمعتقدات والتقاليد والأعراف هي مصدر القوة المعنوية والإلهام للشعب السوداني”، و”التنوع الثقافي والاجتماعي للشعب السوداني هو أساس التماسك القومي، ولا يجوز استغلاله لإحداث الفرقة”. وأن “تكون الشـريعة الإسلامية والإجماع مصدراً للتشـريعات التي تُسنُّ على المستوى القومي وتُطبق على ولايات شمال السودان”، وأن “يكون التوافق الشعبي، وقيم وأعراف الشعب السوداني وتقاليده ومعتقداته الدينية التي تأخذ في الاعتبار التنوع في السودان، مصدراً للتشريعات التي تُسنُّ على المستوى القومي، وتُطبق على جنوب السودان أو ولاياته”. و”تكون المواطنة أساس الحقوق المتساوية والواجبات لكل السودانيين”؛ و “جميع الُلغات الأصلية السودانية لغُات قومية يجب احترامها وتطويرها وترقيتها”؛ وأن تكون العربية والإنجليزية هم اللغتان الرسميتان لأعمال الحكومة القومية ولغتي التدريس في التعليم العالي؛ و”يجوز لأي هيئة تشريعية دون مستوى الحكم القومي أن تجعل من أي لغة قومية أخرى، لغة عمل رسمية في نطاقها، وذلك إلى جانب اللغتين العربية والإنجليزية”.
ويبدو أن هذه النقلة النوعية في الصناعة الدستورية ومستلزمات السلام الشامل المصاحبة لها هي التي دفعت الدكتور حيدر إبراهيم إلى القول بأن “اتفاقية السلام الشامل لعام 2005م” كانت واحدة من الفرص الضائعة في تاريخ السودان الحديث؛ لأن المبادئ القائم الدستور عليها لم يُروَّج لها بالصورة المرجوة في أوساط السواد الأعظم من أهل السودان، ولم تخضع للتقويم الموضوعي من قبل القطاعات المثقفة.
مشاركة واسعة وتفاعل مستمر
وقد شهد المنتدى الاستثنائي ، تفاعلاً مستمراً من الجمهور النوعي الذي أمّ القاعة، حيث تناول بروفيسور أحمد حسن محمّد رئيس المجلس الاستشاري لرابطة الإعلاميين مفهوم “الهويّة الإسلاميّة” ووافقه على طرحه دكتور عمر الأمين عضو المجلس الاستشاري للرابطة والأستاذ بجامعة الملك سعود الذي دعا للفصل بين الثابت والمتغيّر في مفهوم الهويّة لأنّ الدين ثابت والعادات متغيّرة، وتداخل عدد كبير مثل الباحث المهتم هاشم محمّد سعيد والدكتور توفيق الطيب البشير المدير المؤسس لبوابة التوثيق الشامل والدكتور أبوبكر محمّد أحمد المتخصص في المناهج وإسلاميّة المعرفة والخبير القانوني الأستاذ حسن البيلي والإعلاميّة هويدا عبادي والإعلامي هارون الشريف وعدد كبير من الصحفيين والمهتمين.
*الرياض : التيجاني عبد الباقي