العزاء في السودان.. «ميتة» وخراب «ديار»

أجساد من البشر تكدست داخل صيوان العزاء الضيق.. ورجل طاعن في السن يقطع حديث أحد الشباب بالعبارة الأشهر في قاموس المجتمع السوداني: «وانتو زمنكم دا.. قايلنو زمن» ونقاش حاد في الرياضة وكبوة الفرق السودانية المشاركة في بطولة الأندية الافريقية يتسلل من الصفوف الخلفية.. قبل ان يصمت الجميع على مضض اثر اقتحام معزٍ جديد للصيوان فارداً كفيه لتقديم «الفاتحة».. تشتد المناقشات وتعلو الضحكات الغريبة التي تتنافى تماماً مع المكان، بينما يدخل أبناء المرحوم وعلى أكتافهم «صواني» الغداء، بعد أن حملوا قبل ساعات «عنقريب» والدهم الراحل..
هي مشاهد حقيقية من صيوانات العزاء السودانية هذه الأيام، التي تحولت لأندية ومكان لتبادل القفشات والصفقات وكثير من الإشاعات التي تتقدمها شائعة وفاة المرحوم نفسه.. ولعل ذلك التغيير الذى شهده المجتمع فيما يتعلق بطقوس العزاء واحترام المكان، نتج عن العادة القديمة التي ظل يحتفظ بها المجتمع السوداني برغم مساوئها وهي عادة «المواساة» التي تكون بمثابة ألم مضاعف للأسرة المكلومة بما فيها من صرف وواجبات ضيافة للمعزين تستمر لأيام وربما شهور بحسب مقدار «حساسية» كل معزٍ..
الأستاذ محمد الخليل الباحث الاجتماعي تطرق الى تماسك النسيج المجتمعي السوداني القديم، الذى صار يشهد تراجعاً مخيفاً بسبب اختراقه من قبل عدد من الظواهر الدخيلة على المجتمع، وقال الخليل ان تواجد المعزين في منزل الأسرة المكلومة لا يمت للمواساة أو التخفيف من مصابها بأية صلة، وانما هو اسلوب غريب طرأ على المجتمع خصوصاً بعد الانتشار الكبير لشريحة المعاشيين والعاطلين عن العمل، الذين ينتهزون فرصة وجود عزاء حتى يخرجوا من ذلك الروتين القاتل بحجة المواساة..
وتبقى أغرب القصص التى تتواتر عن تلك الجزئية هي التي رواها لنا أحد الزملاء بعد أن توفيت جدته، واعلان الأسرة في المقابر للمعزين نهاية العزاء بإنتهاء مراسم الدفن.. وبالرغم من ذلك وجدوا أعداداً هائلة من أولئك ينتظرون أمام المنزل.. وأكبرهم يهمس «معقولة مافي فراش.. انتو دايرين تفضحونا مالكم!» لتضطر أسرة ذلك الزميل لنصب «فراش» أو صيوان اجباري بأمر اولئك المتطفلين.. ولتصبح بيوت العزاء هذه الأيام «ميتة وخراب ديار»..!!

صحيفة الراي العام

Exit mobile version