وانت ياك عكّاز عمايا

[ALIGN=CENTER]وانت ياك عكّاز عمايا [/ALIGN] كانت العربة تسير ببطء لزحمة المرور وهي تمر أمام مستشفى الشعب في طريقي لمقر الصحيفة .. سرحت أراقب حركة الداخلين والخارجين من المستشفى، عندما توقفت عربة تاكسي نزل منها أمام البوابة، رجل ستّيني أشيب الشعر والشارب، كان يحمل ملامح الطيبة المخلوطة بالصرامة ككل آبائنا السودانيين، بجلبابه منتفخ الجيوب ومركوبه الذي ينبيء إهتراء جوانبه عن طول المسافات التي قطعها أثناء قسوة السعي بين صفا المعايش الجبارة ومروة لقمة العيش الحلال ..
لمحت في وجهه الأسمر ملامح أبي وسمرته، فتسمرت عينيي عليه حتى بعد تحرك العربة من مكانها للامام .. إلتفت للخلف فرأيته ينقد سائق التاكسي أجرته ثم ينحني داخل العربة ليحمل شابا فتيا بين يديه كما يُحمل الطفل الرضيع .. استقام واقفا بحمله الثقيل وترنّح للحظة فسارع الشاب بإعاطة عنق الرجل بساعديه وتشبث به .. تحرك الرجل بخطوات ثقيلة ولكنها ثابتة صلبة صابرة وتوجه لداخل المستشفى وعلى ساعديه حمله الثمين ..
هزني مشهد الرجل وهو يحمل ابنه من الاعماق، وغامت عيناي بالدموع عندما فكرت في قسوة تلك المفارقة فما أصعب أن تجبرك الإبتلاءات على حمل ابنك الشاب وهو مريض بين ساعديك، بعد أن ربيته وأحسنت تنشأته أملا في أن يحملك ساعة الضعف والكبر ..
جعل الإسلام رعاية الوالدين ضرباً من ضروب الجهاد يُقدّم أحياناً على الهجرة وملاقاة الأعداء والتوق لنيل الشهادة بما في ذلك من أجر وثواب، فقد أقبل رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله، قال له رسول الله: (فهل من والديك أحد حي؟) قال الرجل: نعم .. بل كلاهما حي، فقال (ص))فتبتغي الأجر من الله؟) قال الرجل: نعم، قال (ص): (فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما(، وفي رواية أخرى أنه جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال (ص):
(ارجع إليهما فأضحكهما كم أبكيتهما(.
وقال الله تعالى في معرض الوصية بالوالدين:
(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا.)
كلمة (عندك) في قوله تعالى إنما تشير إلى ما يجب على الأبناء نحو آبائهم خصوصاً في مرحلة الكبر، ولزوم أن يكونوا (عندهم) أي تحت نظرهم، وفي محل رعايتهم واهتمامهم، وهذا الشرط لا يتحقق بتنقّل الوالدين بين بيوت الأبناء والبنات، فكلما تحرجت الأم ودخلت في ضفورها من البقاء في بيت النسيب غادرته لبيت الابن، وكلما (زهجت) من رعايتها زوجة الابن حوّلوها لسليفتها وهكذا حتى يقضي الله أمره فيرتاح الأبناء من الحرج .. كما أنه من باب أولى أن لا يتحقق شرط (عندك) بسفر الأبناء للغربة وتركهم لوالديهم يعانون من الوحشة والضعف وقلة الحيلة، فقد سمعت من احدى المغتربات كلاما أشعرني بحزن عميق لم استطيع تجاوزه أو نسيانه، فقد حكت لي أن زوجها قد سافر واغترب هو وجميع أبناء عمومته الشباب للخليج، حتى أن قريتهم الصغيرة في أقصى الشمال لم يعد فيها غير النساء والشيّاب من العجائز، فصاروا يعانون من مشقة شديدة في ستر الجنازة وحملها للمقابر البعيدة عندما يموت أحد أهل القرية، فتشارك الابناء وقاموا بشراء عربة بوكس تركوها في القرية فقط من اجل حمل الجثامين ونقل المرضى لمستشفى أقرب مدينة ..
مرت على خاطري كل تلك الذكريات وأنا أتابع أداء فرقة الصحوة لرائعة ود الشوايقة الحنان (علاء الدين عبد الرحيم) من مسجل العربية ونحن في طريقنا نحو الجزيرة لقضاء العيد مع أهل أبي فـ مسّخت علي وقلّبت مواجعي وغلبني الصبر:
انـت لــمـا خـلاص كـبـرتـا دار تسيبني أعيش برايا .. دار تـفـارقـني وتـسـافــر والـحــزن يصـبــح جـزايا .. كيف يـهـون لك تحـزن أمـك شـان تحـقـق ليـك غاية
كان مسـافـر شـان عـلاجي بـلـقي في شـوفتـك دوايا
وكان عشـان تـســقـيــنـا نهـلك نحـن بي حنـك روايا
كان عشـان كــرعــيــنـا راحـل نحن بي بـعدك حفايا
كان مهاجـر شــان تـعـرس خـيـر أبـوك مالي التكايا
لا تسـيـب أمــك تـهـاجــر يـمـه محـتـــاجــي الحـمايا
لا تسـيـبـني وراك تـرحـل إنـت يـاك ضُـلـي وضرايا
أنـت فـوق الـحـوبــة مـقـنــع إنـت للـمـكشـوف غطايا
دايري مـنـك تـبــقـي جنـبي . جنبي في فـرحي وبلايا
دايـري كـان قحـيـت اتـبـنـك ارفـع اقـســمـلـك غـتـايا
أنت سـاعـة تـبـقي جنـبـي تـبـقـي ضُـلــي وتـوب قفايا
ومـا بخــاف ظـلـم الـلــيــالي وأنـت يــاك عكاز عمايا
مـاني عــارفـي سـبــب رحـيلك يـا وليدي شنو الحكاية .. إلا تبـقي بـــراك شــايـف فـي فــــراق الــوالــدة غـايـه .. ما بعاتبك وما بلومك لو رحلت بلـقي في الأمثال عزايا .. عـلـي حـجــر دايـمـاً قليـبـك وقليـبـي كـله عليـك جنـايا

وصدق من قال (قلبي علي جناي وقلب جناي علي حجر)

لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com

Exit mobile version