ده شنو الكتبتيهو يا خالتو منى ؟.. اتخيل لي الكلام ده حرام !!
ومع احتفاظي بحق الرد بـ (الخوخة) ! وامتناعي عن ذلك تسامحا بسبب رمضان، إلا أن قوله هذا هو بالضبط ما قصدته من إجتراري لأيام الجاهلية الأولى، وسردي لذكرياتي عن ممارسات واعتقادات كنت أحسب أنها تلاشت أو كادت – على الأقل في المدن والحضر – قبل أكثر من عقدين من الزمان، إلى أن ذهبت قبل أيام لأداء واجب عزاء في سيدة من معارفي، وعندما هممت بالمغادرة سريعا بحجة الانشغال حلفت عليّ شقيقة المرحومة بـ :
وحاة سيدي (….) ما بتمشي بلا ما تشربي الشاي !!
الكثير من أمهاتنا وجداتنا تخلّن بطوع ارادتهن بعد انتشار الوعي الديني في الثمانينات، عن بدع التوسل بالأولياء والدعاء والحلف بهم، كتخلّيهن عن الممارسات الخاطئة التي كانت تبدر منهن عند زيارة (الأضرحة) و(البيانات) .. طبعا في واحدين من (أولادي) ديل حا يكونوا ما بعرفوا (البيان) هو ذاتو شنو .. ديل يجوني بي جاي عشان ما يعطّلونا ساي !!
كان لأبي زاوية صغيرة أمام البيت يصلي فيها مع الجيران والأحباب، ويقيم فيها (الحوليات) و(المولد)، فتعهدها أحد الخيرين وبنى مكانها مسجدا، ولكن في الثمانينات اتخذ بعض المتشددين من الشباب المسجد، محورا لمحاربة الصوفية في شخص (أبي) ، فكانوا يتسللون خفية لتمزيق كتب الطريقة وأورادها الموجودة بمكتبة المسجد ..
رغم قناعاتي الاسلامية الهوى، إلا أنني كنت وما زلت أكن احترام عميق للصوفية التي لا ينكر فضلها على بلادي إلا مكابر، ولم أكن لأجرؤ على الامتناع عن مصاحبة (أبي) عليه الرحمة في زياراته لمقامات الصالحين بمصر المؤمنة، ولم انقطع يوما عن اداء صلاة الجمعة معه في مسجد سيدي (المرسي أبو العباس) كلما حضر لزيارتي بالاسكندرية ..
محاربة البدع واعتقادات الحريم بأن سيدي (….) يمكنه أن ينفع ويضر ويعين على سهولة الولادة، ويعيد الحردانة مدفورة لبطن بيتها، كذلك ممارساتهن والطقوس الخاطئة التي يقمن بها أثناء زيارتهن للقبور .. كلها يمكن أن تنتهي وتتلاشى بالموعظة والارشاد ونشر الوعي الديني بـ (بشيش بي بشيش)، ودون اساءة للموروث الصوفي السوداني الاصيل ..
من أطرف ما لاقينا في زياراتنا التبركية في طفولتنا، كان عندما دخلنا مع أمي وبعض جاراتنا وعيالهن لزيارة حفيدة واحد من الأولياء الصالحين ..
خلعنا النعلات في هدوء ومسكّنة انتظارا لدورنا في السلام حسب الأوامر المشددة التي ألقتها علينا أمي قبل الدخول .. كانت (الحفيدة) تجلس متربعة في منتصف عنقريب، وقد تلفحت بثوبها ولم تظهر منها سوى استدارة وجهها النديان، وكفّها التي تركتها على حجرها لتتمكن المريدات من تقبيلها بمزاج .. تقدمنا منها واحدة بعد الأخرى فكل واحدة منّا كانت تحمل تلك اليد البضة وتطبع عليها قبّلة ثم تضعها بشويش في مكانها وتنزاح جانبا لتفسح لمن تليها وهكذا .. وعندما وصل الدور على طفل جارتنا ذو الخمس سنوات دفعته أمه نحو اليد ليتبرك بالبوسة فتقدم على استحياء ثم تشجع وحمل اليد وتحسس نعومتها وليونتها برهة قبل أن ينحني ويخرج لسانه ليلحسها لحسة واحدة ثم يضعها ويتمطق في براءة .. فقد كان صغير حلاتو يعتقد بأننا جميعا انحنينا للحس اليد وتذوّقها!!
لا تنحصر البدع والابداعات على النساء وحدهن فالرجال نصيب مما اكتسبوا في هذا المضمار، أذكر أننا قمنا ضمن جولاتنا التفقدية التبرّكية زمااان بزيارة لمسيد الشيخ (الطيب) شمال أم درمان .. حقيقة كانت زيارة مميزة فقد كان النسيم عليلا والهدوء والسكون والطمأنينة تحيط بالزمان والمكان .. الجبل .. الضريح .. السحب .. حاجة تمام، ولكن لأن الحلو ما يكملش ففي طريق العودة عرّج بنا (أبي) لزيارة (غار) أعلى الجبل قيل أن بعض العبّاد الزهّاد كانوا يتعبدوا فيه، نزلنا وحاولنا التسلق لبلوغ القمة ولكن لياقتنا البدنية خذلتنا رغم صغر سننا، وتمكن (أبي) بكل سهولة من بلوغها ودخول الغار ثم العودة مقطوع الانفاس وفي صحبته (دقشة) من الاعراب صادفهم في الأعلى وطمعوا أن (يمّلحوا) معنا .. تضايرنا وأفسحنا لهم مجلسا في وسطنا على ظهر البوكس، وبعد تحرك العربة وهي تنؤء بحملها انخرط الرجال في الحكي لبعضهم عن بركة ذلك الغار، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي ليعتكف ويتعبد فيه !!
قاطعت الرجل الذي كان يتحدث بشيء من جرأة وتهور ابنة الطاشرات وقلت له بثقة:
لكن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما حصل زار السودان .. كيف يكون بيجي يتعبد هنا ؟!
نظر إلى الرجل نظرة اشفاق وقال في تسامح العالم مع الجهلاء المساكين:
انتي الرسول (ص) ده قايلاهو بشر زي وزيك كده ؟ ده مخلوق من نور يسري بالليل ويمشي محل ما داير يمش !
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com