خلال تلك السنوات نمت بين الاثنين علاقة دافئة، ملؤها التفاهم والتعاون على نقل المحاضرات، والتغطية على بعضهم في دفاتر الحضور والغياب، ولم تنشأ بينهما أي مشاكل أو شكلات، غير القليل من اللوم والتقريع الذي نالته (حنان)، على بعض تظارفها ورفعها للكلفة مع الأولاد، كلما هيأت الغيرة لعقل (سفيان) ذلك الظن الآثم !
لم يشكل انشغال القلوب بالحب عائقا للعقول يمنعها فضيلة الإجتهاد في التحصيل، فجاء التخرج بتفوق وبدرجة أفسحت للاثنين مقعديهما في هيئة التدريس، وبعد تضريب الحسابات المصاحب بالعشم في كرم شقيق (سفيان) المغترب و(رقبتو السدّادة)، وحسن الظن في ذوق زوجته لاختيار الشنطة وملحقاتا .. توكل (سفيان) وأعلن أسرته بعزمه على الزواج من (حنان)، ففرحت أمهاته وزغردت أخواته استبشارا بحلول مواسم الفرح، ثم جاء وقت البيان والتبين، فقدّمت الأم لابنها عريضة استبيان عن العروس ليملأ فراغاتها .. بت ناس منو ؟ جنسا شنو ؟ وساكنة وين ؟
كل تلك الاستفسارات كانت فقط تسهيلا لعمل مجموعات البحث والتقصي التي انتدبتها حاجة (الصدّيقة)، لاستفسار عن أصل وفصل النسابة أهل العروس المرشحة للزواج من ابنها ..
بعد أيام قلايل أكملت اللجان عملها ورفعت توصيتها بـ (الاستبعاد)، وجاء في تفاصيل حيثيات القرار أن جدة والدة العروس كانت تمتلك (راية) تمتعت تحتها بممارسة الأعمال الحرة في سابق الزمان وسالف العصر والأوان، قبل أن يتوب الله عليها وتحج لبيت الله الحرام، ثم تزوجت برحمة الله وأنجبت في أواخر سنين خصوبتها بنت، كبرت وتزوجت هي الأخري لتنجب والدة العروس !
نادت حاجة (الصدّيقة) على ابنها – على جنب – وأبلغته بقرار رفضها لرغبته، وأوضحت له السبب في ذلك الرفض بكل صراحة، وبعد أن ذهب عن (سفيان) الروع من وقع الخبر راجع أمه:
لو افترضنا جدلا يا أمي إنو الكلام ده صاح .. طيب يبقى (حنان) ذنبها شنو في السوتو حبوبتا زمان .. الله بيقبل التوبة من عبدو نقوم نحنا ما نقبلا …
قاطعته حاجة (الصدّيقة) بحسم:
يا ولد شن غرضنا في توبتن .. انت ما سمعتا بالمثل البقول (العرق دساس) والبت لي أماتا .. كربة زمانك شنو البتخليك تدخّل عليك مره ما بتآمن على شرفك معاها ؟!
اسود وجه (سفيان) من الغضب وقاطع أمه بدوره:
والله وبالله الحق .. خمس سنين ما شفتّها يوم سوت العوج .. أنا يا أمي بعرفا كويس وبثق فيها وماعندي شغلة بي كلام النسوان الما بخافن الله الرسلتيهم عشان يكشفوا عواير الناس ..
أحست حاجة (الصدّيقة) نبرة التحدي والعصيان في لهجة (سفيان) فقالت مهددة:
غايتو هداك أبوك لو قال موافق علي كلامك الخايب ده اليمش يعرس ليك براهو .. أنا ما معاكم .. ومن هسي أعرف أكان مسكتا يد البت دي لاك ولدي ولا بعرفك ..
لم تكن ردة فعل حاج (صالح) بأفضل من ردة فعل زوجته، فقد أكد لـ (سفيان) رفضه القاطع للفكرة وبرر له بـ:
يا ولدي مافي زول بيفهم النسوان ديل غير النسوان الزيّهم .. أمك مره نجيضة وبتعرف كل حاجة وقالت إنو تربية البنات علي أمهاتن عشان كده البت دايما بتتأثر بي طبع أمها وبتحاكيها في كل حاجة ..
وبعد تنهيدة أسف طويلة بسبب الحزن الذي طغى على ملامح (سفيان)، واصل الحاج في الحديث لعله يتمكن من اقناع ابنه بالتخلي عن رغبته:
صدّق لو كان الوضع معكوس، وولد الناس ديل جاني قال داير واحدة من أخواتك .. والله ما كان برجيها لي بكرة .. لكن البنت وضعها مختلف .. طلبتك بالله يا ولدي أسمع كلام أمك وما تدخلنا في المطب ده ..
ضغط (سفيان) على نفسه وأعتذر لـ (حنان) بظروف قهرية أستجدت لدى أسرته تمنعه من التفكير في الزواج في الوقت الحالي، فلم تجد أمامها سوى كرامتها لتلوذ بها من خيبة الأمل ونزوت بعيدا عنه، وصارت تتجنب اللقاء به ولو في باحة الكلية ….. يتبع
لطائف – صحيفة حكايات
munasalman2@yahoo.com