كانت زرقة مياه المحيط الاطلنطي تنكسر فوق جناح النهار، وتنفرط فضة شمس الرباط الدافئة على هضبة المدار المتلاشي عند عتبة بيت من طبقتين، فوق الباب الخارجي مدت شجرة ياسمينة ضفائرها كنجة خيلاء بين المجرات، والزمن الرث يلبس حلة جديدة من أردية البرق المزركشة، والذات توغل في الذات والوحشة لا تدفئها الوحشة!!
عند عتبات الدار الصامتة الهادئة، ينطبق قوس النهار، لا صوت ولا جلبة ولا نشيد، البيت ساكن كأنه لا يضج بألوف الكلمات والقصائد التي أشعلت النار في الاشتعال وانهمرت أمطاراً في شوارع المدن الغريقة في السام والانتظارات الطوال، ومرآة الشمس تلك وهي ملطخة بالسحاب الأبيض الراضع من ثديها، تعكس وجه هذا الزمان الغارق في تضاريس الفناء وأشباح الماضي العتيق.
البيت عبارة عن فيلا صغيرة، صالة متوسطة الحجم بجانبها غرفة ومطبخ وحمام، عليها أثاث بسيط، توقفنا عنده برهة لنصعد درجاً لولبياً قصيراً يفضي إلى الطابق الثاني.. على الحوائط منمات ولوحات بألوان مائية، وأناقة غارقة في بساطتها .. وصاحبة الدار بشعرها الذهبي تبدو شاحبة مرهقة حزينة تسكن عينيها دمعات مقيمات راعشات.. وما يشبه الذهول أو الذبول على وجهها يتراقص كصورتها فوق الرخام الملون.. وهي تشير بيدها: «.. تفضلوا ..ها هو كعقاب يعاند الزمن ..» !!
«ب»
في المكان الموحش .. ها قد أتى الوقت.. تنفخ ريح الزمن خلفه راياتها وتسير قوافل من بقع الماء خلف ظله المضيء.. مقابل المدخل مع نهاية الدرج اللولبي القصير .. في صالة صغيرة فرشت بسجاد ملون نظيف … كتمثال خرافي قديم جلس محمد مفتاح الفيتوري على مقعد متحرك قبالة الباب ينظر بعينين ساهمتين حيناً.. قلقتين .. قويتين .. وإذا به يهتف.. الله أكبر.. الله أكبر
تلك هي الكلمات القليلة التي نطق بها لسان الفيتوري عند لقائنا به في داره بالرباط الأسبوع الماضي، وهو جالس على كرسي متحرك.. لف جسده في معطف من قماش من الصوف سميك رمادي اللون مخطط بخطوط سوداء باهتة، له عروة غاصت فيها رقبته، وأدخلت قدماه في حذاء من القماش مبطن بالصوف الأبيض، تسكن شفتيه حيئذٍ بسمة غريبة المعنى وتجول في عينيه فرحة مطلقة كاللؤلؤة على فم النار.. محلقة وراء السماوات .. أرخت أهداب السنوات عليه أوشحة من نعاس كهولي عتيق… أو هكذا بدا لنا .. روحه بين جنبيه تخفق بقوة لكن خانها الجسد أن تنتفض وترعد وتطير.. كأن شيئاً كان يخرج من روحه .. من صدره.. يستل سيفاً من أغوار قلبه يقطع به أعناق العذابات الطوال.
داهمت عينيه في تلك اللحظة صور شتى وأزمنة تمشي أمامه كمهرجان الملوك وكعرائس المجد والكبرياء الذي عاشه، خارت قواه عندما حاول النهوض لكن قواه مثل الحسام الذي تساقط نصله نجمة في التراب!!
كان أخضر الجوانح والفؤاد.. لكن مناقير الأيام تأكل من روحه وتحسو من دمه.
كان أنضر من وردة في الصباح.. لكن بيدر الزمن الساهم يومض منذراً بالجدب والأفول.
«ت»
لا يمكن أن ترسم صورة للفيتوري وهو يتجاوز عتبة الخامسة والثمانين من العمر، تتحرك اصابعه المرتعشة الرطبة ككفي طفل، كأنه يبحث عن صرخته الأولى في مدينة الجنينة دار اندوكا في عام 1930م عندما ولد في حاضرة دار مساليت، كانت السماء يومئذٍ راعدة برعد قوي والوديان «كجا» و «أزوم» يزمجران.. هناك تتلاطم المياه والزغاريد.. مثلما تتلاطم مياه الأطلسي والشتاء المرخي سدوله يتسرب في جنبات المنزل الصامت في منطقة هرهورة بتمارا في العاصمة المغربية الرباط.
عيناه القلقتان العميقتان وهو ينظر إلينا مرحباً، تنسال منهما التساؤلات.. شرق الشمس وغرب القمر، تبحث فينا عن أغصان الليل السوداني الرامي ذؤاباته على وجهه والساكن في دمه وبين أضلاعه.. كأنه أراد أن يقول:
هل تبصر هذا الأفق المشمس في عيني؟
إني أتحدى عرشك المصبوغ بالمجد
من علقني في قفص الدمية؟
لا أملك إلا خوذة الريش
ولا أحمل إلا صدف البحر ولا أمضغ إلا بعض ما أبقى الضحايا الخالدون
في فمي …
ومثلما أردتني ..
حلقت في غير سمائي
وتساقطت شهيد العصر
في غير ترابي ودمي!!
من خبأ الرغبة في الشوق.. أتدري؟
أنت تدري .. أن هذا الشوق مأساتي
انعكاسات مراياك على وجهي
قوس الشجر الغارق في الأصفر
لون العشب في العشب
التماثيل التي تعبق بالذكرى
ولا تمتلك إلا شهقة الذكرى
لماذا نملك الشيء قليلاً
ثم لا نملك إلا جسد الشيء!!
وتدري أنت أن الزمن الميت في الإنسان
إنسان يموت
زمن الدهشة والصحو الضبابي يموت..
زمن يسكن فينا
ثم نمتد على الأرض
ويمتد على الأرض السكوت ..
«ث»
وجه الفيتوري الغامض .. يحكي تاريخ جيل ووطن، عاش الرجل بواكير حياته حتى أنهى تعليمه الجامعي في أرض الكنانة بالاسكندرية، ثم عاد للسودان مع نهاية الخمسينيات، ليعمل في مجال الصحافة ويرأس تحرير مجلة «أم درمان» التي صارت فيما بعد مجلة «الإذاعة والتلفزيون والمسرح»، وكتب في هذه الفترة حتى بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي أجمل قصائده ودواوين شعره، وبرز بإفريقياته أغاني وأحزان إفريقيا، وطبقت شهرته الآفاق، ثم انتقل الى ليبيا في عنفوان ثورتها، وله قصة مع ليبيا حيث عاش جده لوالده الذي اختطف في منتصف القرن التاسع عشر من دار مساليت بالسودان وأخذ الى مدينة زليطن الليبية، وعاش هناك وانجب ابنه رجب والد محمد الفيتوري الذي بدوره عاد للسودان بعد ان درس في مصر وعمل بها، وتزوج هناك وولد له ابنه في موطن آبائه واجداده.
فمع الثورة الليبية بقيادة معمر القذافي وجد الفيتوري نفسه في لجة موج الشعارات العروبية الدفاقة والمد الثوري العنيف، وكان الحدث الشعري الأبرز في تلك الفترة هو مزيج التفاعلات السياسية العربية، وقد تحمل تبعاتها من خصومة مع نظام مايو الذي حرمه من جواز سفره وهويته، فتلقفته ليبيا القذافي وغنمته وسار في ركاب تلك الأحلام وطلب الحرية التي غنى بها ولها .. وسط الخراب العربي الكبير .. علا صوته الشعري وعرفته المنابر العربية.. والمهرجانات الشعرية.. وقابله الملوك والأمراء والرؤساء العرب، وازدحمت حوائط منزله بالجوائز والشهادات التقديرية، وأصبح هو نفسه ملك الشعر المتوج.
وكان علامة في سماء القريض العربي، بل شامة بين كتفي الفصاحة الشعرية، حسده من حسده واستعجب واستغرب فيه من تعجب، لهذا السوداني القح الذي بزَّ أقرانه وأترابه، ولم تشهد الساحة الشعرية العربية خلال الستين عاماً الماضية شاعراً يطأ المنابر فيحيلها إلى لهب أحمر، وتمطر عليه الصالات والمهرجانات تصفيقاً وهتافاً مثل الفيتوري.
ولعل الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، كان أكثرهم دقة حين قال عنه «عندما يعتلي الفيتوري المنابر يتحول إلى غول إفريقي».. وظلت أزمنة الشعر وأسئلته تجري خلفه وحواليه ومجده المرفرف الأجنحة يحلق به في كل الفضاء العربي العريض من خليجه إلى محيطه، حتى حط بين أضلاع جبال أطلس وشاطئ المحيط الأطلنطي واختار أن يكون خريف العمر هناك.
«ج»
عندما جلسنا إلى الفيتوري في داره، وقد هزل الجسد وهده المرض، وصار مثل الراحل الشاعر السوري الكبير محمد الماغوط حين قال وهو مريض: «أنا أحب الحياة وأريدها لكن خانني الجسد ..» كنا ننظر إلى هذا الطود الشعري الضخم كيف يطبق براحتيه على أحلامه الكبرى وآماله وأشواقه في أمته العربية وفي مستقبل إفريقيا ووطنه السودان.. تجري الكلمة في نهر عينيه البراقتين، تحس أن قلبه يخفق ويعلو وجيبه، وجسده الهزيل ينتفض بقوة، وينبعث شعاع عرفاني من أغوار نفسه فيصيح «الله .. الله» وهو صامت لا يتكلم .. ينظر إلينا كأنه ينظر إلى وطن ممزق وعالم عربي محطم الفؤاد مقطع الأوصال، وكأن صورة وطن طالما حلم به يحاصرها الحريق ورماد الذكريات تذروها الرياح أمامه.
يداه راعشتان.. عيناه عميقتان حادتان .. شفتاه عن الكلام ممسكتان.. جسده الهزيل المريض يرفض أن يستسلم يموت أو ينتصر كما قال عمر المختار عن جهاده.. وصدى كلماته يقول:
أيها البطل الشيخ ..
مغتسلاً بماء الثمانين ..
مختبئاً في تجليك ..
انهكني السفر فيك ..
أعرف أنك ضوء على زمني
هكذا أنت
فامكث كما أنت ..
هكذا كن خالداً في معانيك
متكئاً فوق مجد الثمانين
وابق مكانك.. ابق مكانك.. ابق مكانك
«ح»
الضوء ينسكب على الأشياء .. مثلما وهج العمر ينسكب على الفيتوري الذي وصف لقاءنا به صديقنا عبد الله خير الله حين رآه مثل نسر الشاعر عمر ابو ريشة.. لكن مثل الفيتوري يعيش خارج الزمن.. تظل قبسات الشعر الخالدة هي عمره الذي لم يعشه وعمره الذي عاشه.
رجل يعيش خريف عمره.. مريضاً بعيداً قصياً.. نائياً عن وطنه.. يوسد رأسه وسادة الذكريات المترامية الأطراف كبلده .. لعله في صمته المجيد يحلم ويظل يحلم وهو حلم لا ينتهي.. وقوس الليل وقوس النهار يحاصرانه.. وهو يقول:
قالت: وماذا بعد؟
في أيامنا، وأنت في أيامنا
يسقط قوس الليل معكوساً على قوس النهار
ونحن.. نحن البشر الفانين في هذا المدار
نجيء مغلولي الأيدي
ونذهب مغلولي اليدين
وقد نموت مطبقي الشفاه
عاجزين
عاجزين مثل ما ترين!!
مثلما ترين!![/JUSTIFY]