السودان وفصل جديد مع “الجنائية”

[JUSTIFY]المشهد السوداني، داخلياً وخارجياً، لا يزال محصوراً في الحالة “السريالية” حيث التعقيد والتقاطع وانسداد الأفق.. ولم يأت وزير الخارجية بجديد حين يجأر بالشكوى من أن المشاكل الداخلية تنعكس سلباً على علاقات السودان الخارجية في غمرة فوضى سياسية اختلط فيها الحابل بالنابل، فالخرطوم تطالب قوات الأمم المتحدة المعروفة اختصارا باسم “يوناميد” بالمغادرة من إقليم دارفور، ويقول الرئيس البشير لها: (بارك الله في من زار وخفى)، بيد أن الأمم المتحدة تؤكد وتقول إن الـ”يوناميد” لن تغادر دارفور قريباً.. داخلياً هاجمت ما يعرف بأحزاب الحوار، وهي الأحزاب التي تُتهم بأنها أحزاب مدجنة في غالبها، الحكومة وحملتها عواقب تعثر الحوار الوطني الذي بدأ مسيرة سلحفائية قبل نحو عام واتهمت هذه الأحزاب حكومة البشير بخرق خارطة طريق الحوار الوطني، في حين يقول البشير إن البلاد أحوج ما تكون للوفاق الوطني، لكن لا أحد يرى أي جدية للحكومة في مسألة الحوار الذي ترى فيه المعارضة خدعة ونوعاً من التكتيك وكسب الوقت حتى يحين أجل الانتخابات في أبريل القادم وقد رفضت الحكومة بشدة طلبات تأجيلها ولو لساعة واحدة على حد تعبير الرئيس البشير. والرئيس منشغل بالدفاع عن سياسات وزير صحة ولائي مثيرة للجدل كلما صعد منبراً أو ألقى خطاباً.
الحكومة وحدها والحزب الحاكم يعمدون لتعديل الدستور للعبث بقانون الانتخابات لتركيز سيطرة الحزب الحاكم وتضييق فرص فوز آخرين قد يوافقون على الدخول في معمعة الانتخابات، واليوم يُطرح تعديل الدستور أمام البرلمان الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم سيطرة كاملة، ولذلك بغرض إعطاء صلاحية تعيين الولاء للرئيس بدلا من انتخابهم، والبرلمان غارق في قضية انصرافية في ظل هذه الأزمة السياسية حيث تتعالى الأصوات جدلا في قضية ختان الإناث.. ومن الأمور المثيرة للدهشة تفاخر وزير المالية بوجود فائض في موازنة 2014 بنحو (1.5) مليار جنيه وهي موازنة معلوم أنها أجيزت بعجز تجاوز الثلث، بينما يقول المراجع العام في ذات الوقت إن حجم التعدي على المال العام بلغ (3.7) مليار جنيه خلال العام نفسه.
من جانبه يؤكد وزير النفط نقصاً لم يحدد حجمه في المواد البترولية والاتجاه للاستيراد، وهكذا يتحول السودان في مشهد دراماتيكي من مُصدر للنفط إلى دولة مستوردة له.
الضعف والاضطراب الداخلي يحركان الملفات الخارجية في اتجاه سلبي بالضرورة كما تمت الإشارة، فقد حفل الأسبوع الماضي بتحذيرات من الخرطوم لجوبا واتهامها بدعم الحركات المسلحة المتمردة، بل هدد جهاز الأمن والمخابرات السوداني بملاحقة هذه الحركات إن لم ترعو جوبا داخل أراضي دولة جنوب السودان. وربما كانت أخطر الملفات الخارجية سخونة ملف المحكمة الجنائية الدولية وملف قوات “يوناميد” الأممية في دارفور وبلغت ذروة الأزمة في الأخير عندما جاهرت الخرطوم بطرد هذه القوات وقابلت الأمم المتحدة ذلك بتحدٍ كبير عندما صرحت بأن هذه القوات لن تغادر دارفور قريبا. وثارت الأزمة عندما راجت اتهامات لقوات نظامية سودانية بارتكاب جرائم اغتصاب في إحدى قرى دارفور، ودون الخوض في صحة أو عدم صحة تلك الاتهامات، فإن ذلك دليل على عدم تمكن الخرطوم من حل أزمة دارفور حتى الآن.
معلوم أن “يوناميد” جاءت بناءً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1769) الصادر في 31 يوليو من العام 2007.. وبعد ممانعة كبيرة من الخرطوم لرفضها دخول قوات دولية إلى دارفور تحت البند السابع، تم التوصل لصيغة بوساطة إفريقية، بحيث يتم السماح لقوات من الاتحاد الإفريقي بقبعات زرقاء، على أن تكون مهمتها حفظ الأمن والسلم دون أن تكون من صلاحياتها أي عمليات هجومية، كما يقتضي الأمر وفقا للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وظلت “يوناميد” ضيفا ثقيلا على الخرطوم وسادت العلاقة بين الجانين أجواء عدم الثقة وتبادل الاتهامات. في يوليو 2012 حين تم التجديد لمهمة هذه القوات قابلت الحكومة السودانية قرار مجلس الأمن بتحفظ كبير وترحيب فاتر ووصفت بالقرار العادي وزعمت أن هنالك تفاهما على تخفيض القوة العسكرية لـ”يوناميد” بنسبة %25 والتركيز على العمليات المدنية والشرطة لحفظ الأمن وتطبيق اتفاقية الدوحة بالشراكة مع الأطراف الموقعة عليها.. المشكلة أن الاتفاقية مع الخرطوم حددت وضعية “يوناميد” وهي أن التفويض الممنوح لهذه القوات تفويض دفاعي فقط ولا تملك أي تفويض هجومي، وظلت هذه القوات في واقع الأمر تحت حماية القوات المسلحة السودانية وما زاد الأمر سوءًا ضعف تجهيزاتها التي تمكنها من حماية نفسها من هجمات المتمردين في المقام الأول، ثم حماية العزل من بعد ذلك.. كثيرا ما أعاد الجيش السوداني ممتلكات وآليات تابعة لـ”يوناميد” كان قد استولى عليها متمردون.. الأمم المتحدة مسؤولة عما يجري لقوات “يوناميد”، لأنها ومنذ البداية تباطأت في التمويل مما تسبب في تعطيل وشل حركتها.
وبعد إصرار البشير إعادة ترشيح نفسه لولاية أخرى بعد حكم تجاوز (25) عاما، قامت المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة قبض ضد البشير في 2009 في 12 ديسمبر الجاري بإعادة الملف لمجلس الأمن الدولي باعتباره صاحب إحالة الملف إليها بحجة عدم تمكنها من القبض عليه وهي محاولة للضغط على مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات جديدة لإجبار البشير على المثول أمام المحكمة وعللت قرارها باتهام المجلس صراحة بعدم تحركه للضغط من أجل اعتقال البشير.. الحكومة السودانية تقفز فوق الحقائق وتعتبر أن ذلك نصر لها نتيجة لتحسن الأوضاع في دارفور، والواقع يقول إن ذلك تصعيدٌ خطيرٌ في ظل أوضاع داخلية هشة ومضطربة اضطرابا شديدا. ومما زاد الأمر تعقيدا مثول رئيس كينيا السابق أمام المحكمة وتسوية قضيته، وكانت كينيا تقود دعوة إفريقية لمقاطعة المحكمة، لأنها تتعمد استهداف الرؤساء الأفارقة، وعولت الخرطوم كثيرا على ذلك التحرك.

(أرشيف الكاتب)[/JUSTIFY]

Exit mobile version