من أهم سمات الدولة الحديثة في عصرنا هذا، فصل السلطات.. حتى تتكافأ القوى لمصلحة الدولة وشعبها. لكن عندما تجتهد المؤسسات في إثبات حالة كونها (حكومة أظرط من السلطة التنفيذية) نفسها.. هنا تفشل الدولة.
أمس – في الخبر الذي تجدونه اليوم في صحيفة “التيار”- تقدم خبراء من الجهاز الرقابي للأنشطة النووية في السودان باستقالات جماعية لوزيرة العلوم.. والسبب أنهم مارسوا سلطاتهم في حماية السودان، فرفضوا دخول حاويات تحوي مواداً مُشعة خطرة.. وكانت النتيجة أن تفاجأوا بقرار فوري بإقالة مديرهم العام.
وحسب الشروط الصارمة التي تفرضها وكالة الطاقة الذرية العالمية ينبغي أن يكون هذا الجهاز الرقابي على الأنشطة النووية مستقلاً من أي تأثير من الجهاز التنفيذي.. لضمان حيدته وقوته وقدرته على منع استخدام المواد المُشعة التي تدمر صحة الإنسان فتهلكه.
المواد التي حوتها (63) حاوية وصلت إلى بورتسودان (تابعتها “التيار” خلال الأيام الماضية) خطرة للغاية.. على المدى القصير المباشر الآن.. وعلى المدى الطويل لأنها تتسرب إلى المياه الجوفية.. ولا حاجة بي للتذكير بالمعدلات العالية للمصابين بالأمراض الخبيثة في السودان.. وتتجنب السلطات الجهر بأسباب هذا الارتفاع المخيف في أرقام المرضى.
الآن – بعد قرار إقالة مدير الجهاز الرقابي النووي- تبدو القضية الأخطر ليس في دخول شحنات مُشِّعة فحسب.. بل في تكبيل سلطة مثل هذه الأجهزة الرقابية فتصبح البلاد بلا بوابات حراسة، مكشوفة لكل من يملك السلطة والسطوة..
والأمر لا يتعلق بهذه الحادثة وحدها.. فأعلى مؤسساتنا الرقابية.. التي يفترض – وفق نظرية فصل السلطات- أنها ليست جزءاً من السلطة الأولى (السلطة التنفيذية) تعيش هي الأخرى حالة كونها حكومة (أظرط) من الحكومة، السلطة الأولى نفسها.. فكثيراً ما تنشر الصحف تصريحات صادرة من البرلمان محيرة للغاية.. لا يدري من يسمعها بلسان من ينطق البرلمان.. بلسان الشعب الذي يفترض أن البرلمان هو لسان حاله في مواجهة السلطة التنفيذية.. أم بلسان السلطة التنفيذية التي يفترض أن البرلمان مواز لها لتحقيق مبدأ توازن السلطان (Checks and balances)..
مطلوب من وزيرة العلوم والاتصالات شرح الأسباب التي أدت لإقالة المدير العام للجهاز الرقابي للأنشطة النووية.. ثم الإجابة على سؤال أكثر الحاحاً.. هل أعيدت الحاويات الـ(63) من حيث أتت؟؟ أم أنها لا تزال في الميناء..أم سمح لها بالدخول.. بكل الخطورة التي تمثلها على صحة العاملين في الميناء أولاً.. ثم بقية المواطنين ثانياً.[/JUSTIFY]