> وهذه الزيارة رغم قصرها وضآلة وقتها المُتاح، كانت ذات قيمة كبيرة ونقطة تحوُّل كبيرة في علاقة البلدين، وهي علاقة تاريخية ترتبط بمواقف السودان ودعمه للنضال الأفريقي وحركات التحرُّر الأفريقية منذ هبوب رياح الاستقلال على بلدان القارة السمراء، ومواجهة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كان السودان في مقدمة الدول التي دعمت كفاح المؤتمر الوطني الأفريقي وشعب جنوب أفريقيا منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي، وكان أول دولة أفريقية تمنح وثائقها وجوازاتها لقادة المؤتمر، ومن بينهم الزعيم التاريخي نلسون مانديلا الذي ذكر في مذكراته(طريقي الطويل نحو الحرية)، كيف زار السودان مطلع ستينيات القرن الماضي، وماذا وجد فيه، ولم ينسَ مانديلا هذا الموقف السبَّاق والشجاع للسودان طيلة حياته.
ولم تكن زيارة الرئيس الحالي لجنوب أفريقيا جاكوب زوما للسودان، خارج سياقاتها المعلومة، لكنها في توقيتها وظروفها وما يتعرَّض له السودان، مضافاً إلى كل ذلك الموقف الأفريقي الموحَّد والقوي من المحكمة الجنائية الدولية، وما صدر من القمة الأفريقية التي اختُتمت السبت الماضي، تعتبر زيارة ذات أثر بالغ على المستويين الإقليمي الدولي، ولها ما بعدها، ولن تكون القارة والسودان بعد هذه التطورات كما كانت..للأسباب الآتية:
1. ظل موقف جنوب أفريقيا من قضية المحكمة الجنائية الدولية طيلة السنوات الماضية موقفاً شبه محايد، التزمت فيه بالموقف العام للرؤساء الأفارقة في رفض المحكمة، لكنها بثقلها ووزنها لم تدخل في مواجهة مع المحكمة أو المجتمع الدولي بسبب السودان، بل لم تستطع نتيجة للضغوط استقبال الرئيس البشير أكثر من مرة متذرِّعة بما يمليه عليها توقيعها ومصادقتها على ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، وظلت تتجنَّب التعبير عن موقف واضح أو انتهاج سلوك سياسي يعبِّر عن رفضها للمحكمة والامتناع عن التعامل معها..لكن هذا الموقف الجديد بخلفيات كثيرة منها تواصل التعاون والحوار والتفاهم بين البلدين، جعل الصورة أكثر وضوحاً للقيادة الجنوب أفريقية، وهذا ما دفع الرئيس زوما للقيام بهذه الزيارة المهمة للغاية، وتوجيه لطمة قوية للمحكمة، أو بالأحرى أطلق عليها رصاصة الرحمة، باعتبار أن بلاده بكل ثقلها الدولي قد أشاحت بوجهها عن محكمة الرجل الأبيض واختارت دعم ومساندة السودان.
2. القرار الأفريقي في القمة (24) الأخيرة، بمخاطبة مجلس الأمن الدولي بسحب ملف الإحالة في حالة السودان من المحكمة الجنائية وإلغائه، تُعزِّز بصورة لا سابق لها وبشكل كبير وقوي جداً، بهبوط الرئيس زوما في الخرطوم، مما يعني أن تحوُّلاً هائلاً في القارة قد حدث، وسيكون لهذا القرار آثاره وأبعاده على كل الأصعدة، وقصد الرئيس الجنوب أفريقي أن تكون زيارته للخرطوم عقب القمة مباشرة وبعد قرارها التاريخي، بالرغم من أنه كان يمكن أن يلتقي الرئيس البشير في أديس أبابا ويتباحث معه في ملف القضايا دون أن تكون هناك حاجة لزيارة السودان.. فقد حملت خطوة زوما دلالات كبيرة، ووجهت رسائل في كل الاتجاهات بأن أفريقيا موحَّدة وحاسمة وجادة في طي ملف المحكمة الجنائية الدولية بشكل نهائي لا رجعة فيه، وقد انتقلت جنوب أفريقيا من خانة الحرج الذي كانت تحس بها إلى مربع جديد تصبح فيه هي المدافع الأول عن حقوق القارة وضد استهداف قادتها..
3. من واقع ما جرى في القمة الأفريقية وقراراها الذي سيُبلَّغ به مجلس الأمن الدولي بسحب ملف الإحالة الى المحكمة، يحتاج الى دعم سياسي أفريقي كبير، وهذا ما فعله جاكوب زوما، فقد كانت معركة هذا القرار في أروقة القمة الأخيرة معركة شرسة كما سمعت من الأخ كمال إسماعيل وزير الدولة بالخارجية حول الذي دار في كواليس القمة، وقد سعت الدول الغربية عبر مبعوثيها وسفرائها في أديس أبابا لإجهاض صدور القرار وتعويقه، ويبدو أن الزيارة ردت على كثير من المعوقات والاعتراضات التي قامت بها الدول الغربية لإضعاف الإرادة الأفريقية وسلب قرارها، وينبغي أن تستثمر هذه الزيارة ويُستفاد منها، خاصة أن الدعم السياسي الذي وفرته سيُسهم في معالجة ملف المحكمة الجنائية الدولية خاصة إذا قمنا في الداخل هنا بوضع تدابير وترتيبات داخل البيت السوداني لتجاوز الأزمة الراهنة وطي الخلافات وإنهاء أزمة دارفور..[/JUSTIFY]