وبالرغم من أن هذه الفئة التي مثلت شريحة اجتماعية تاريخية جاءت بعدها نماذج شبيهة في أغلب البلدان العربية، وكانت تمارس هذه الظاهرة التي اندثرت بفعل التحضر والزمن، إلا أن أصل الظاهرة كان في الجزيرة العربية وفي هذه البقعة من جبال السروات وكهوفها ومغاراتها وعم نشاطهم سوق عكاظ المقر الرئيس في الجاهلية.
كانت سمات ظاهرة الصعلكة هي التناقض الأخلاقي، حيث نجد أخلاق الصعاليك تتسم بالشهامة والنخوة، وكانوا لا ينهبون قبائلهم ويرعون حقوق الجار والعشير ولا ينهبون إبل المرأة واليتيم والفقير، والغني الكريم. كما كان الوفاء للرفيق من أميز صفاتهم، هذا بغض النظر عن إباحية المعاملات مع غيرهم. الصورة رغم طابعها المنبوذ اجتماعيا فهي تبدو طريفة نوعا ما وذلك لارتباط الصعاليك بشعر يحكي أحوالهم، وبحكايات قديمة تبرر أفعالهم وسرقاتهم بمبادئ أقرب إلى التعاطف الإنساني مع المظلومين والمضطهدين والمحرومين.
وعند ذكر الشنفرى وعروة بن الورد والسليك بن سلكة وغيرهم، لا يسعك إلا أن تقع على ما أوردوه من قصائد توضح أن نهب وسلب الإبل كانا يعدان من أرفع ضروب الفروسية، وكانوا يأخذون من مال الغني ويعطون الفقير، محققين نوعا من العدالة الاجتماعية بوضع اليد ودون الالتزام بقانون أو عرف اجتماعي، عدا ما يميزهم من كرم وشجاعة ونبل وفروسية وشهامة.
وتتبدى هنا قيمة إضافية وهي أن انحياز الشعراء الصعاليك إلى الفقراء كان تعبيرا عن ذواتهم لأنهم مثلهم في موضع الحاجة والفاقة، ولكن ما يميز الصعاليك هو إحساسهم بالمسؤولية عن تحقيق هذه العدالة لغيرهم من الفقراء. كما يحاولون تحقيق عدالة أخرى في نظرهم وهي مواجهة الظلم الاجتماعي، حيث يصنفهم علية القوم تصنيفا وضيعا يجعلهم في قاع مجتمع ذاك الزمان.
كانت وجهة هؤلاء الصحراء، أملهم للخلاص من صحراء أخرى انبلجت فيها لوعة ولسعات الظلم. الرفض للواقع هو الذي جعل الشعراء الصعاليك يتمردون على نظمهم القبلية ويدورون في فلك الإغارات، ولكن يرجعون إلى أن كل ما يقومون به هو في سبيل تحقيق نوع من الاشتراكية المبتدعة قبل ظهور النظرية الاشتراكية الساعية إلى المساواة بين الفقراء والأغنياء. ولما لم يكن من سبيل لتحقيقها بالطرق السلمية نظرا لأن السيادة والكلمة العليا كانت لعلية القوم، وهم من يملكون المال والجاه، ولأنه كان قانونا سائدا في الجاهلية، كان لا بد من استخدام القوة للخروج من نفق الظلم الاجتماعي وابتلاءاته. أما بعد مجيء الإسلام، فقد أرسى قيم العدالة الاجتماعية وجعل للفقراء حقا معلوما بنظام الزكاة، وحث المسلمين على الصدقات والبر.
ما حدث ليس ببعيد عن حكايات «روبن هود» في الأدب العالمي ولا حكايات «الهمباتة» في الأدب السوداني. فروبن هود كان يوزع على الفقراء ما يسرقه من الأغنياء في محاولة لتطبيق القانون الاجتماعي على نظام المجتمعات القديمة، وتصوره الحكايات قويا وسيما طيب القلب. أما الهمباتة في قول شاعرهم «الطيب ود ضحوية» فقد اختاروا طريق كسب المال الصعب عن طريق القانون الاجتماعي.
كانت الصعلكة تعبيرا عن روح الجماعة وتماشيا مع ذوقها في إقليم جغرافي محدد، وهو ما أبدعه هؤلاء بوسائلهم التعبيرية، وهو كل ما تعرفه مضارب القبائل المتنقلة بين كهوف ومغارات جبال السروات بأبعاد ضاربة في تاريخ البشرية الشفاهي. كما تعد أحد عوامل الابتداع الإنساني في مجالات الفكر والأدب والعلوم الاجتماعية. إن جدلية الحضور والغياب في ممارسات وشعر الصعاليك تكمن في أنه قد يكون في التراث ما يصلح لأن يكون تراثا حيا، وهذه المأثورات الشعبية هي نبض من حياة فاعلة ما زالت تتجدد في دورة حياتها الإبداعية.[/JUSTIFY]