(حوتة)…فلتنم هانئاً في مرقدك
لأول مرة في حياتي اجد صعوبة بالغة في كتابة مقال صحفي، ولأول مرة في كل مسيرتي المهنية اشعر بأنني سأكتب دون ان امتلك المقدرة على إيصال تفاصيل حدث ما للقارئ العزيز.
لكن أعود واؤكد ان إحساسي أعلاه، هو إحساس طبيعي جداً اذا ماقورن بصعوبة فهم وتفسير العلاقة التى تربط مابين الفنان الراحل محمود عبد العزيز وجمهوره، تلك العلاقة الغريبة والعجيبة والتى تجعل هذا الجمهور الضخم يصل الى حد (التبتل) في محراب الراحل حياً و(ميتاً).
كنت على يقين تماماً ان ذكرى رحيل محمود الثانية ستحظى بحضور جماهيري كبير للغاية، لذلك ايدت وبشدة إقامة الذكرى بإستاد الخرطوم، وقلت للاعزاء في مجموعة محمود في القلب بأن ذلك الخيار سيضمن لهم تفادي الازدحام الهائل الذى شهدته الذكرى الاولى بنادي الضباط العام السابق، لكن المفاجأة التى اصطدمنا بها جميعاً هو ان سعة الاستاد نفسها لم تسع للجماهير التى حضرت ليلة امس الاول، حيث كانت الجماهير المرابطة خارج الاستاد اكبر بكثير من التى احتلت المدرجات، ذلك المشهد الذى اصابني بالحيرة، وجعل احد اصدقائي يقول وبذهول: (الحواتة ديل الاستادات بقت مابتشيلهم…تاني حيمشوا وين).؟
وسؤال صديقي ربما كان منطقياً فجماهيرية محمود عبد العزيز فصل عجيب من فصول التأمل، فهي جماهيرية تزداد مع مرور الايام ولاتنقص برغم رحيل الفنان نفسه، وان تمتلك مثل ذلك الحب فأنت بالتأكيد انسان غير عادي و(اسطورة) حقيقية تنافس اساطير العالم وتتحداهم بكل قوة وبكل ثبات.
(جمهور فنان راحل يتزايد يوماً بعد الآخر).!…هل يملك علماء المجتمع تفسيراً لهذه الظاهرة..؟..بل هل يملك اطباء ومتخصصي علم النفس ايضاحاً..؟..خصوصاً ان اصطحبنا عقلية الجمهور السوداني والتي تعتمد على المثل الشهير القائل: (البعيد عن العين..بعيد عن القلب)، تلك العقلية التى انهارت بسرعة كبيرة امام محمود عبد العزيز وغيرت ثوابتها لتصبح (البعيد عن العين…قريب من القلب اكثر).
شباب…نساء…اطفال…شيوخ…وفئات من مختلف المجتمع تجمعت في إستاد الخرطوم ليصبح المشهد في حد ذاته مثيراً للتأمل في سيرة ذلك (الشاب النحيل) الذى استطاع ان يشغل العالم بآسره عبر موهبة ربانية نادرة وعبر حضور طاغ وكاريزما استثنائية لاتتوفر ولن تتوفر لفنان سوداني قريباً.
نعم…قد نعترف ان محمود واجه الكثير من الصعوبات والمشاكل والابتلاءات في حياته، ولكننا لابد ان نقرّ كذلك بأنه طوع كل ذلك لعشق عظيم وتمكن من خلق (ابتسامة نادرة) وسط عشرات الدموع التى كان يزرفها في حياته وعبر آلاف الآلام التى كان يعايشها بصمت وصبر عجيبين.
محمود ياهؤلا ليس فناناً فقط…محمود مدرسة جديدة المنهج وعميقة الفكر…وهو ايضاً ليس بفنان جماهيري وحسب…بل هو (حالة) تستحق الدراسة والجلوس لسبر اغوارها واستنطاق صمتها وفك شفراتها…وهو كذلك ليس (انسان رقيق الدواخل) فحسب، بل هو انسان يجيد جذب كل الناس اليه طواعية وعن حب ليصبحوا بين يديه عشاقاً ومحبين ومريدين ويصبح هو بالتالي (الحاج) الذى يفتخر بأبوته كل (الحواتة).
الحضور الذى شهده استاد الخرطوم امس الاول يعتبر استفتاء حقيقياً لمحبة ذلك الشاب النحيل الاسمر صاحب الصوت (الاسطوري) والحضور (الاستثنائي)، والآهات التى هزت مدرجات الاستاد لم تكن محض آهات حزن، فآهات الحزن لاتهز المدرجات، الا اذا ماتضامنت مع (انفاس التحدي) والعهد الابدي بالبقاء (حواتة) وان طال الفراق وعز اللقاء.
عزيزي محمود…نمّ هانئاً في مرقدك…فيكفيك فخراً انك شغلت الناس حياً وميتاً…ويكفيك حباً كل ذلك الهوى الذى انسكب من قارورة عطر (الحواتة) الذين جاؤا من كل حدب وصوب ليغنوا مع صوتك (الباقي) وشخصك (الغائب) اجمل اغنية وفاء يمكن ان نسمعها في هذا البلد الجميل.
اعزائي (الحواتة)…لن تكفيكم الحروف لوصفكم ولمنحكم حقكم…فأنتم بحق (الصمود) في زمان (الزيف)…وانتم بحق (اولاد الحاج) الذين افتخر بهم حياً…ونفتخر نحن بهم بعد مماته…شكراً نبيلاً لكم ولدواخلكم النظيفة ووقفتكم القوية التى تستحق ان تدرس لكل جماهير الفنانين، لنرتقى قليلاً من تلك الجماهيرية البغيضة التى لاتعرف غير (الشتائم) ولاتملك من ادب الوفاء إلا (التقليد).
جدعة:
تمنيت ان يكون كل الفنانين الشباب حاضرين في تلك الليلة، ليس وفاء لروح محمود، ولكن ليتعلموا كيف تصنع (الجماهيرية الحقيقية).
شربكة أخيرة:
محمود…(في نعيمك انت هاني…يالبقيت سلطان زماني).
[/JUSTIFY]
الشربكا يحلها – احمد دندش
صحيفة السوداني