ظللت أعاني خلال الأيام العشرة التي سبقت كتابة هذا المقال – ولا أزال – من نزلة برد سخيفة جعلت صوتي (الجميل عادة)، مثل صوت دجاجة مصابة بالسعال الديكي، بعبارة أخرى فقد صار صوتي مزيجا من صوت نبيل شعيل الرخيم، وصوت الصحفي السعودي قينان عبدالله الغامدي.. وصوت قينان للذين أسعدهم الحظ بـ«عدم» سماعه يشبه مزيجا من هدير أمواج التسونامي ودحرجة برميل فارغ في شارع مسفلت، وصرير إطارات السيارات عند الضغط على الكوابح (الفرامل) والبنزين في نفس الوقت! وقد بدأت نزلة البرد عندي فور وصولي إلى السودان (وأكتب هذا المقال من الخرطوم في هذا اليوم الـ16 من يناير 2015)، وإلى جانب ذلك عانيت من نزلة من نوع آخر- نزلة معوية وهي التي يسميها العامة «إسهال»، جعلتني مشلول الحركة نحو ثلاثة أيام، وسبب النزلة المعوية هو ان قريباتي، وخاصة كبار السن منهن لا يعرفن شيئا عن الديمقراطية ولا يعترفن بأنني كبرت وصرت أبا، وأنه لولا تعقل ولدي الأكبر لكنت جدا، فهم – وكلما وضعوا الطعام أمامي – يعاملونني كطفل: خذ هذه القطعة.. وتكون القطعة زنة كيلوغرام مربع.. تناول شيئا من هذا الطبق.. ألا يوجد عندكم أكل في منطقة الخليج حتى تعود إلينا وأنت رفيع مثل عود الخيزران (يعتبرنني مثالا للرشاقة فموتوا بغيظكم)،.. المهم انهن يحشونني بالأكل، المشبع بالثوم والفلفل والشطة، حتى اجتاحت جهازي الهضمي موجة تسونامي عارمة، جعلتني انطوائيا ومنعزلا عن الناس كي لا يسمعوا الأصوات المنكرة الصادرة عن قولوني.. باختصار هي إجازة رومانسية قضيت نصفها في دورة المياه، ولكنني سعيد بذلك فما أجمل أن تعاني من مرض بسيط وتجد نفسك محاطا بالحب غير المشروط.
وبصراحة فقد حرصت على زيارة السودان خلال عطلة عيد الأضحى الأخيرة – أيضا – لجس نبض الشارع السوداني، لمعرفة ما إذا كانت لدي فرصة لاستغلال التحولات الديمقراطية المرتقبة في البلاد، لتكوين حزب سياسي يجعلني شريكا في الحكم، فمنذ زمن وأنا أخطط للفوز بوزارة التجارة: سنة واحدة في تلك الوزارة تكفيني لـ«تكوين النفس» ووداع الفقر، و……… وداع السودان هربا من المحاكم والمظاهرات المعادية! ولكن سرعان ما أصابني الاحباط، فكل شلة من الأصدقاء فرغت من تكوين حزب سياسي، وهناك الأحزاب الموجودة في الساحة منذ أربعينيات القرن الماضي وقد انقسم كل منها الى أربعة أحزاب.. وما هو أسخف من كل هذا هو اكتشافي ان ابا الجعافر «نكرة» في السودان.. لا أحد يعرفني.. والذين كانوا يعرفونني إما ماتوا او هاجروا أو أصيبوا بعاهات وإعاقات تمنعهم عن الحركة.. شيء محبط.. «أنا» أمشي في شوارع الخرطوم بالطول والعرض من دون ان يوقفني أحد ليتساءل: يا سلام.. أنت جعفر عباس بن شداد؟ أنا الذي كنت أحسب نفسي مثل صخر شقيق الخنساء «علم في رأسه نار»، يتجاهلني أبناء وبنات وطني؟ أنا.. ولا شيء في نظرك يا زول؟ الله يسامحك!
ماذا يفعل شخص مثلي قضى نصف عمره في منطقة الخليج، ومع هذا قد يروح ضحية الوباء الجديد المسمى «توطين» الوظائف، أي منح الوظائف المتاحة والتي ستتاح لأهل المنطقة؟ كيف أعود الى بلدي وليس فيها من يكلف نفسه حتى عناء إلقاء التحية علي أنا الذي ياما قاومت كيد حسناوات بريطانيا وتحرشات فتيات الفياغرا في الفضائيات العربية؟ الحل هو ان يطبق أهل الخليج توطين الوظائف بعيدا عني.. شوفوا غيري.. ومشكلة البطالة لن تحل بتوطين وظيفة جعفر عباس!
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]