مدن تصنع النجوم.. والخرطـوم تستهلكهـم

القطار المرّ.. مرّ فيهو حبيبي
بالعلي ما مرّ.. ونلت مقصودي..
رائعة عوض الكريم القرشي التي تغنى بها المبدع الراحل عثمان الشفيع أعطت تهويمات ابداعية شتى.. فذاكرة «القطار» مفعمة بالشجن والحنين، فتارة تحمل المحبوب.. وتارة أخرى تحمل ثقافات متحركة من هامش إلى مركز.. ومن مُعطى فاقع لونه لا يسر الناظرين، إلى فلاشات مضيئة..
وهكذا يترجل البعض من القطار وهم ذواكر تمشي بين الناس..
الناس والدواب يترحلون.. وهكذا الثقافات..

(1)
{ الذاكرة الابداعية في كل المعمورة متخمة بهذا الترحال الذي لا يكاد ينقضي، والنوتة الابداعية لمجمل عباقرة العالم يتشاطرون مفردة الترحال من وإلى، وبنظرة ضيقة لهذا الحقل نرى تقاسيم معرفية للثقافات وهي تنقسم حيناً وتنسجم حيناً آخر.
كرست النخب لنفسها امكانات معرفية تستخدمها عند استدعاء ابداعها، وحاولت من خلالها أن تتخندق في المركز، حيث هنا كل شيء موجود ومتاح، رغبة منها في أن يحصنها مما تركته هناك خلفها في (الهامش)، بل ووضعت كل اهتمامها بالمركز بوصفه مصدر اشعاع تتوافر فيه الفرص (السهلة) أمام المشتغلين بالابداع، وكأن الثقافة هي استنساخ فضل (المركز) من حيث الثقل في الامكانات، على ما عداها من ثقافات واردة، حتى ان البعض بدأ يصف ثقافة المركز بـ(القامعة) وثقافة الهامش بـ(المقموعة)..
(2)
{ وربما نرى في مصطلح «الغابة والصحراء» الذي ابدع رواده د. محمد عبد الحي والنور عثمان ابكر وصلاح محمد ابراهيم، نرى في ذلك بحثاً عن مفاتيح هوية جديدة لا يتم فيها (تسليع) الانسان.. فقد قال محمد عبد الحي:
افتحوا للقادم اليوم..
أبواب المدينة..
لتفتح ابواب المدينة (المركز) للقادم من الهامش.. وفي ذلك يقول الدوش:
في الضل الوقف ما زاد
بمعنى البحث عن «ضل مركز» ولا ضل (حيطة الهامش)، ليؤكد الشاعران أن أشواق الهامش ما هي إلا ارادة صادقة للاعتراف بالذات الابداعية، ورغبة عارمة في المساواة مع المركز «المدينة/الضل» وإعادة التفكير في كل شيء بما في ذلك حجر الابداع على من هم خارج نطاق المركز.
نرى اليوم وحتى على مستوى البرامج الانتخابية للاحزاب ان ثقافة الهامش والمركز، تقع أولوية قصوى لرؤية الانسان وفق ما يقدمه، ووفق حقوقه في وطنه، لا وفق جغرافية موقعه، وذلك وفق افتراض ان ثقافة المركز هي وافدة من الهامش بل استطاعت السلطة (أياً كانت) أن تدعم أسماء بعينها في سماء الفن والثقافة، وذلك بتقديم فلاشات فاقعة حولهم والتهليل بمنجزاتهم الثقافية، لكن بشروط احتوائهم لصناعة المشهد الثقافي والفني.
(3)
{ السؤال الماثل: ما هي مآلات الصراع بين الهامش والمركز؟ بمعنى ما مصير ابداع اؤلئك الافراد خارج حدود العاصمة..؟
الاجابة ليست هينة، وغير مستحيلة، لتأكيد جدلية المفارقة، ففي المركز تتجمع دور النشر وتصدر الصحف الكبرى والمجلات والدوريات، وفي فنادقها تعقد المؤتمرات، وعلى مسارحها تعرض المسرحيات وتقام المهرجانات والحفلات.. و.. و.. الخ..
وبهذه الآلية تراكمت على مستوى الظهور الاعلامي اعداد هائلة من النصوص، خلقت في مجموعها انطباعاً مؤكداً ان المركز هو «البقعة» الوحيدة للبث والارسال الابداعي «جغرافياً».
هذا الانطباع زرع في نفوس الكثير من المبدعين ومنتجي الثقافة في المدن البعيدة عن العاصمة، فكرة ان البقاء بعيداً عن المركز تعني المزيد من الزمن الضائع على مستوى الحضور والمشاركة في بناء الدائرة الثقافية.
إذن..
في المجمل فإن ثقافة البلدان المتأخرة لا تعني القدرة على انتاج النص المضيء، بل تعني القدرة على الانخراط في لعبة الوصول إلى قلب المشهد، وهي مرحلة ابداعية مفارقة يحاول خلالها المركز الاستحواذ على النفوذ الفعال، وهناك يجاهد الهامش وفقها لمغادرة هامشيته لكتابة اسمه في سجل الابداع.
(4)
} لكن يبقى المركز يقع في المكان الأفضل، شديد الاضاءة واللمعان، لذا تغدو جميع المواضيع التي تجذب اهتمامه، مواضيع فاقعة اعلامياً، بينما في الهامش تحضر الأسماء والكلمات توطئة لكي تنال حظها من الظهور والتقدم نحو الأمام..
فنانون.. ممثلون.. شعراء .. ملحنون.. رسامون.. هناك في الكثير من المدن والقرى والارياف، لم يسمع بهم احد، ولم يتعرف على ابداعهم أحد، ولم يسألهم أحد ماذا يفعلون.. كل ذلك لأنهم بعيدون عن المركز، وبالتالي عن الاهتمام الاعلامي بالمبدعين..
(5)
{ شذرات.. يلتقطها البعض من هنا وهناك.. بتخطيط لاظهار بعد الواعدين في الولايات، وفي أغلب الأحيان يتم ذلك عن طريق الصدفة.. ثم لا شيء آخر..
لذا يضطر المبدع لأن يهجر منطقته النائية، ويذهب نحو العاصمة.. علَ عدساتها تلتقطه صدفة أو رغبة، ليضمن وضع اسمه ضمن الخارطة الابداعية لهذا الوطن..

صحيفة الرأي العام

Exit mobile version