عشرية اتفاقية السلام السودانية: مسؤولية الإخفاق

[JUSTIFY]
عشرية اتفاقية السلام السودانية: مسؤولية الإخفاق

انعقدت يوم الجمعة الماضي، الذي صادف مرور الذكرى العاشرة لتوقيع اتفاقية السلام الشامل السودانية، ندوة فكرية لتقييم مكاسب وإخفاقات، ودروس وعبر الاتفاقية. ولكن الملفت أن تلك الندوة لم تعقد في جوبا أو الخرطوم، حيث لم تبد صحف البلدين مجرد إشارة إلى الاتفاقية التي خلقت أحد البلدين وقسمت الآخر. عقدت الندوة في العاصمة البريطانية لندن، ونظمها المجلس الملكي للعلاقات الدولية، أهم مراكز دراسات السياسات الخارجية في بريطانيا. وكان كاتب هذه السطور من بين المتحدثين في الندوة التي رأستها عضو مجلس اللوردات (ديم) روزاليند مارسدن، سفيرة بريطانيا سابقاً في الخرطوم، وكذلك مبعوثة الاتحاد الأوروبي السابقة إلى السودان، حيث جرى تقييم الاتفاقية وثمارها من مختلف الجوانب.
ولا شك أن هذا الإهمال والتناسي من قبل النخبة في شمال السودان وجنوبه لاتفاقية شكلت واقع السودان القائم ورسمت مستقبله لأجيال قادمة يعكس بدوره جانباً من واقع السودان، وهو ظاهرة الانشغال بالآني والحاضر والاستغراق فيه، وعدم الالتفات كثيراً للماضي وعبره، أو التطلع للمستقبل استناداً إلى تلك العبر. وكنت وما زلت أكثر التعجب كلما دعيت إلى المشاركة في مناقشة علمية تتناول الأزمة السودانية في عاصمة غربية أو افريقية (فالعرب كذلك غائبون عن مثل هذه التداولات، باستثناء العاصمة القطرية الدوحة) أتعجب كيف لم أشهد مثل أساليب التناول الجادة هذه للشأن السوداني في الخرطوم؟ فالأقربون أولى بالمعروف، وأهل الشأن أولى به من غيرهم. ولكن
أذكر هنا مشاركتي في مؤتمر نظمته وزارة الخارجية الأمريكية في نهاية التسعينات لمناقشة سياساتها تجاه السودان، يختلف عن لقاءات مماثلة تنظمها مراكز الأبحاث، رغم أهمية تلك الندوات، خاصة تلك التي ينظمها المعهد الأمريكي للسلام. يكفي أن الورقة التي أعدتها مجموعة عمل رأسها كل من فرانسيس دينغ وستيفن موريسون بتكليف من معهد الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن عام 2001 بعنوان: «سودان واحد، نظامان»، شكلت سياسة الإدارة تجاه الحرب في جنوب السودان. ولكن المؤتمر الذي أشرت إليه أعلاه كان من تنظيم وزارة الخارجية نفسها، وشارك فيه وكيل الوزارة ولفيف من السفراء وكبار المسؤولين فيها، في إشارة للاستعداد للاستماع لنقد سياساتها من أخرين، وبصورة شبه علنية.
المفاجأة كانت أن أكثر الانتقادات حدة جاءت من داخل الوزارة نفسها، حيث وجه أحد كبار السفراء نقداً لاذعاً ومطولاً لسياسة إدارة كلينتون في السودان، وقال فيها ما لم يقل مالك في الخمر، وما كان يطرب ساسة الخرطوم لو سمعوه. والشاهد هو تقبل دولة عظمى مثل الولايات المتحدة للنقد والتقييم لسياستها الخارجية، وصرف وقتا وجهدا كبيرين في التدقيق وإعادة النظر والاستماع لوجهات النظر الأخرى في السياسة تجاه بلد هامشي بكل المقاييس في أجندة السياسة الخارجية الأمريكية. هذا مع العلم بأن المسؤولين في الخارجية على كافة المستويات يتمتعون بكفاءة عالية، ومعظمهم ذوو خلفية أكاديمية متميزة، كما أن أجهزة اتخاذ القرار مدعومة بأجهزة استشارية ومعلوماتية على قدر عالٍ من الحرفية. ومع ذلك يرى هؤلاء ضرورة استشارة جهات من خارج الإدارة وحتى من خارج البلاد.
وبالمقابل نجد حكومة السودان، رغم محدودية بضاعة مسؤوليها من العلم والحرفية، ترى أنها لا تحتاج لتتعلم من أحد، بل ترفض رأي كل ناصح، ويصر جهلاؤها على أنهم أعلم العلماء بالشأن السوداني وغيره، رغم أن معظمهم عاجز عن حل لغز كيف يبقى أقرباؤه (ناهيك عن الأبعدين) ومعظم سكان أحياء الخرطوم، على قيد الحياة رغم أن دخول كبار المهنيين من أطباء وأساتذة جامعيين لا تكفي لقوت يومهم.
في الندوة المشار إليها، انتقدت اتفاقية السلام من حيث الصياغة والتنفيذ معاً، حيث وصفها د. شراس سرينفاسان، مدير مركز الحكم وحقوق الإنسان في جامعة كامبريدج بأنها كانت وصفة ليبرالية لحكومة وحركة لم تكن الديمقراطية من أولوياتهما. من جانبي أشرت إلى دراسة لي نشرت في عام 2011 عقدت مقارنة بينها وبين اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل، من حيث أن كلتيهما أجلت أهم القضايا أملاً في تطور الثقة بين الجانبين وحسن النوايا مما يسهل التوافق مستقبلاً. ولكن هذا الأمل يكون مبرراً لو كانت القضايا الخلافية هي مسائل ثانوية، وليست مسألة حياة أو موت أو عقيدة لطرف أو آخر، وهو ما لم يتوفر في هذه الحالات.
رأى المعلق السياسي الجنوبي ماوان مرتات، بالمقابل، في الاتفاقية كثيراً من الإيجابيات، كونها جسدت رؤية الزعيم الراحل جون قرنق في الخيار بين الوحدة الحقيقية ووحدة الحد الأدنى، ونسب الإخفاق إلى التنفيذ لا الاتفاقية نفسها. أما الكاتب والناشط الحقوقي إيدي توماس فقد ركز على الأوضاع المتدهورة في جنوب السودان حالياً، وأشار إلى الإشكالات المتولدة عن الصراعات الداخلية وحجم النازحين وبقية الضحايا. وكنت قد أشرت في مداخلتي إلى أن الساسة والمراقبين معاً كانوا قد أخطأوا في تقدير حجم وتأثير الخلافات الداخلية في أقاليم السودان المختلفة، وركزوا بالمقابل على الخلاف مع المركز. ولكن الملاحظ أن إشكالات كل من دارفور والجنوب بدأت مع الحكم الذاتي في الإقليمين، وقد غطى عليها الصراع مع المركز دون أن يتجاوزها، بل عمقها في أحيان كثيرة. وأضفت في رد على متداخل رأى تهميش الأقاليم هو لب المشكلة في السودان بالقول بأن معالجة «التهميش» لن تتحقق بمجرد قرار سياسي، وإنما تحتاج إلى سياسات طويلة الأمد في مجالات التنمية عموماً التعليم خاصة، وهو هدف لم تساعد الحروب فيه. فالحروب المشتعلة في الجنوب منذ ما قبل الاستقلال دمرت ما كان موجوداً من البنى التحتية، وعوقت مشاريع التنمية والاستثمار، بل وعطلت المشاريع القليلة الموجودة. فنحن هنا أمام حلقة مفرغة تدمر فيها المناطق التي تشكو التهميش نفسها عبر الصراعات، ولا بد من السلم والصبر عليه حتى تتحقق أي تنمية.
احتج كثير من الحاضرين على ما وصفوه بالتركيز على سلبيات الاتفاقية، وأشاروا إلى إيجابيات كثيرة فيها، منها أنها وسعت مساحة الحريات في البلاد، وهو مكسب ما يزال قائماً رغم التراجعات. وأشار ممثلو حكومة السودان، وعلى رأسهم السفير محمد عبدالله التوم والملحق الإعلامي خالد المبارك، إلى التزام حكومة السودان بكافة التزاماتها في الاتفاقية، وصولاً إلى السماح بفصل الجنوب سلمياً. إلا أن المجتمع الدولي لم يف بأي من التزاماته تجاه السودان. وتساءلوا عن السر في ذلك. تطوعت بإجابة لا تحتاج لكثير تقصٍ لتفسير هذا الأمر، وهو تفجر أزمة دارفور ومعالجاتها القاصرة وتجييش الرأي العام حولها، مما صعب على الحكومات الغربية التحرك لإلغاء العقوبات على السودان في وقت تطالب فيه جهات كثيرة بعقوبات أكثر. ولكن يمكن أن يضاف هنا أن الحكومة السودانية لم تضغط بصورة جادة من أجل إنهاء العقوبات واشتراط ذلك لتوقيع وتنفيذ الاتفاقية. إضافة إلى ذلك، فإن الحكومة ضيعت فرصاً كثيرة لتحسين العلاقات مع الغرب، خاصة فرص التقارب التي لاحت مع الولايات المتحدة، كما أنها ضيعت فرص إنقاذ وحدة السودان والحفاظ عليها عبر تنازلات معقولة.
ختاماً لا بد، مع الاعتراف بإيجابيات الاتفاقية، ومنها الدستور الحالي قبل أن يتم الإجهاز عليه خلال القليلة الأيام الماضية، أن نشير إلى رمزية معضلة افتقاد المجال لعقد مثل هذا النقاش حول إشكالات سياسات السودان الخارجية في الخرطوم كما هو في جوبا. وهذه هي أم المشاكل.
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]

Exit mobile version