إستراتيجية التعامل مع دولة جنوب السودان

إستراتيجية التعامل مع دولة جنوب السودان
كنتُ من قديم أطالب بوضع إستراتيجية للتعامل مع جنوب السودان قبل أن يصبح دولة مستقلة، نظراً لحالة عدم الاستقرار التي تسبَّب فيها في مسيرة السودان السياسية، ذلك أن السودان كان موعوداً ببلوغ الثريا عشية استقلاله، لكن مشكلة الجنوب التي زرعها المستعمر في خاصرة السودان، مدمياً بها جسده قبل أن يغادرنا أحالت مع تداعياتها الكارثية وأخطائنا الكبرى بلادنا إلى دولة مريضة تنوء بأثقال من الأزمات التي توشك أن تحيل وطننا الغالي إلى حطام.

نعم.. لقد انفصل الجنوب أخيراً، ورأيناه يشتعل كما تنبّأنا من قبل بالحرب الأهلية التي أثبتت أن ذلك الجزء المفروض على بلادنا لن يقوى على التوحّد كوطن مستقل، فبالله عليكم تأملوا كيف صبرنا على توحّده القسري معنا أكثر من نصف قرن من الزمان بعد الاستقلال، بينما لم يصبر على نفسه ليوم واحد، فهاهو يئن تحت وطأة الحروب التي توشك أن تمزقه إرباً.

إذا كان بروفيسور ديفيد ديشان الأكاديمي والباحث الإستراتيجي الجنوبي قد تنبأ بانفصال الجنوب إلى ثلاث دول، هي أعالي النيل وبحر الغزال والإستوائية الكبرى، فقد قلنا ذلك قبل سنوات، بل ألمح إليه الخواجات قبل أن يخرجوا من السودان بعد أن ضموا إليه الجنوب نكاية به، ظناً منهم أن ذلك سيضمن لأبناء الجنوب رعاية من دولة تحملهم على كتفها وتضمن لهم العيش المشترك في وطن مستقل، إلى أن يتوحّدوا ككيان ودولة، وذلك أمر موثَّق من خلال منشور أصدره السكرتير الإداري البريطاني عام 1946 قبل عام من مؤتمر جوبا الذي زوره رغماً عن إرادة الجنوبيين ليفرض عليهم وعلينا وحدة كبَّدتنا خسائر فادحة.

الآن وبعد أن خرجت (النشارة) أو سمِّها (الفلِّين) الموضوع بين أكواب الزجاج، أو كما قال حكيم الجنوب لادو لوليك، وهو يصف وجود الشماليين بين القبائل الجنوبية المتناحرة التي قال إنها ستحطِّم بعضها بعضاً بمجرد أن يخرج الشمال الذي عبَّر عنه بالنشارة أو الفلين الذي يوجد بينها أو الذي تتوحد في مواجهته.. الآن وقد انكشف المستور وبان ما كان مخفياً واتضحت استحالة العيش المشترك بين قبائل متناحرة، لم يفلح التعليم والتحضر الذي ناله قادتها الأكاديميون والعسكريون في كبح جماح أضغانها إنما اتضح أن هؤلاء هم الذين يقودون تلك الحروب، أصبح لزاماً علينا نحن هنا في السودان أن نضع إستراتيجية واقعية وحكيمة في التعامل مع الواقع الجنوبي الجديد لما له من تأثير على مستقبلنا وأمننا الوطني.

أول ما ينبغي أن نجيب عليه ونحن نخطط لوضع إستراتيجية التعامل مع المكونات القبلية للدولة الجديدة أو قل لدويلاتها المستقبلية أن نجيب على السؤال: ما هي الدولة الأقرب إلينا من الدول التي ستخرج من الجسد الجنوبي والتي ينبغي أن نحرص على إقامة جوار آمن وعلاقة مستقبلية معها بل ونتحالف معها في مواجهة أعدائها الذين هم كذلك أعداءٌ لنا؟!

الأمر لا يحتاج إلى بحث وتقصٍّ كبير، ولا يستعصي اتخاذ القرار بشأنه على طفل صغير.

إنها أعالي النيل الكبرى الدولة الجارة التي يغطيها النوير الأقرب إلينا تاريخياً بل إنها الولاية الأغنى كون بترول الجنوب كله تقريباً يُنتج في أرضها.

ثانياً، إذا كُنا قد قلنا ما أكده ديشان وغيره من أن موسيفيني عدو السودان الإستراتيجي هو من يحكم دولة الجنوب من خلال وجوده العسكري الذي جعله الآمر الناهي الموجِّه لسياسات الجنوب الخارجية وذكَرنا بالكيد الذي ظل الرجل يضمره ويعلنه ويمارسه ضد السودان ومثَّلنا لذلك بوثيقة كمبالا والفجر الجديد الذي رعاه بمشاركة مؤسفة من الحركات المتمردة وللأسف من بعض الأحزاب السودانية التي تتآمر مع رجل تعلم أنه عدو للسودان.. إذا كان الأمر كذلك فإن السودان لا خيار له غير أن يختار طريقاً آخر غير ذلك الذي اختارته دولة تحالف بل تحكم من عدو السودان اللدود الذي تتضارب مصالحه الاقتصادية مع مصلحة السودان بعد أن اعتبر دولة الجنوب كنزاً إستراتيجياً من الجانبين الاقتصادي والسياسي.

ثمة نقطة أخرى لا يمكن تجاوزها وهي أن الحركات السودانية المتمردة المؤتمرة بأمر راعيها موسيفيني لم تترك للسودان خياراً آخر غير أن يقف في مواجهة حكومة سلفاكير والتحالف مع غريمه الذي تشاء الصدف الحميدة أن يكون الجار الأقرب جغرافياً للسودان.

صحيح أن دولة بحر الغزال القادمة والتي يحكمها موسيفيني ستجاور السودان كذلك لكن ذلك شأن آخر يحتاج إلى تناولٍ آخر.

ذلك كله يقتضي أن يضع السودان إستراتيجية محكمة في التعامل مع الدولة الجديدة.

الكاتب : الطيب مصطفى
زفرات حرى – صحيفة الصيحة

Exit mobile version