لا بديل للسكة حديد، إلا السكة حديد. هذا شعار يردده الناس كلما تذكروا مجد السكة حديد وكيف أنها كانت تقرّب المسافات على قول أستاذنا عبد الله علي إبراهيم، وكيف أنها كانت جمل شيل الاقتصاد السوداني، وكيف رقصت البنات على أنغام الغناء للقطر. أما آثارها الاجتماعية فيكفي ما حكاه صديقنا عبد الحفيظ مريود من أن النميري قال لناظر المسيرية / بابو نمر إنه يريد حل الإدارة الأهلية، فرد عليه قائلاً الإدارة الأهلية انحلّت يوم وصلت السكة حديد بابنوسة، ولكن للأسف النميري اغتال السكة حديد مع سبق الإصرار والترصد وأعاد الإدارة الأهلية لتصبح بعاتي الألفية الثالثة وهي قصة أخرى.
منذ خروج السكة حديد من دورة الاقتصاد السوداني ظل الناس يبكون ويتشوقون ويحاولون عودتها، لذلك عندما ظهر القطار الذي يحمل الركاب بين عطبرة والخرطوم يوميا- نسميه هنا قطار الشوق – (غنينا وفرحنا وأمسينا وصبحنا) على أساس أنها بداية وسيعقبها كليتون مدني الخرطوم الذي سينعش الحياة في الجزيرة ثم يتواصل ضخ الدم في شرايين سكك حديد السودان ليعود قطر نيالا (الما بتأخر مرة اتحرك فات الدامر نحن قطرنا شهرين في بربر مستنينو يجي يودينا)، كما يقول منلوج ستينيات القرن الماضي الضاحك، ولكن يبدو أنه سيطول انتظارنا، ولكن للأسف (ما عندنا موية ندفقها على الرهاب) لأنه لا بديل للسكة حديد إلا شوارع الموت هذه.
هذا التشاؤم مصدره ما طقش آذاننا من معلومات مصدرها وزير النقل ووالي نهر النيل وآخرون من أن هناك محاولات مستميتة لتعطيل قطار الشوق وإخراجه من الخدمة يقوم بها مجهولون (معلومون) فكم مرة ضبطت كومة أحجار كبيرة قام بإفراغها قلاب كبير على القضيب، وكم مرة ضبطت محاولات لقلع القضيب، وكم مرة وضعت حواجز أمام القطار على السكة والهدف من ذلك أن ينقلب القطار ويموت أكبر عدد من ركابه، ليشكل ذلك أكبر ماساة ويتذكر الناس غناء البنات القديم (القطر الشالك إنت يدشدش حتة حتة) و(القطر الشال معاوية يتفرتق زاوية زاوية)، ليعود الناس للبصات السفرية والروزات والكريزات والأتوسات لأن الموت فيها بمعدلات أقل وتعود الروح للقهاوي ومحطات الوقود التي هجرها الناس وهم يمتطون قطار الشوق.
هل يمكن لأي سوداني طوله خمسة أقدام وستة بوصات وعيونه عسلية وفطرته سليمة أن يصدق مثل هذا؟ هل يمكن للمصالح الذاتية الضيقة أن تدفع صاحبها لارتكاب مثل هذه الجريمة؟ نعم جريمة الشروع في القتل. ماذا حدث للناس في هذه البلاد؟ طيب ياخي إذا كنت أنت مستفيد من نشاط اقتصادي وفتح الله للناس ما هو أحسن منه، فلماذا لا تشغل عقلك وتحول نشاطك الاقتصادي إلى مجال آخر وتستفيد أنت نفسك من المعطى الجديد؟ الكنكشة دي بقت في أي حاجة؟ ما أضيق مثل هكذا أفق!
إن الذين يحاولون إخراج قطار الشوق من الخدمة بتلك الصورة البدائية يشكفون أن هناك أعداء للبلاد أخطر منهم بكثير قد تسللوا لموقع اتخاذ القرار، ويمكننا أن نجزم أن النميري قد فعل فعلته تنفيذا لمؤامرة لم يدرك أبعادها، وأن سكك حديد الجزيرة الضيقة قد اغتيلت عمدا، وأن هناك من يتربص بالسكة حديد حتى لا تعود للحياة مرة أخرى، وأن التلكؤ الذي يجري أمامنا الآن كما يحدث لخط حديد مدني الخرطوم كله بفعل فاعل. فكيف يبلغ بنيان السكة حديد تمامه إذا كان الذين يهدمونه أكبر وأقوى؟ يا جماعة الخير البلد تمشي لقدام كيف؟
[/JUSTIFY]
حاطب ليل- السوداني
[email] aalbony@yahoo.com[/email]