حالها كحال كل الأمهات تتحمل عناء إزاحة الصخر من أجل أبنائها, لا يوقفها تعب ولا يثني عزيمتها الرهق, وهي على استعداد أن تتحدى المستحيل فحنان الأم يجعلها لا تأبه.
قررت المجيء للخرطوم (العاصمة) حيث يزحف الجميع شمالاً نحو المركز, فالمكان كما سمعت أفضل وهي تبحث عن هذا الأفضل لأجل الصغار الذين حملتهم في أحشائها وهناً على وهنْ.. فحملت ما خف وسهل حمله, وطرقت أبواب المدينة الحلم تستبقها أمانيها وأحلامها في تحقيق ما هو أجمل للصغار, وبدأت ملامح العاصمة تتراءى لها والعام 1981م يتنفس ببطء, وهي تتوغل في أحشاء مقرها الجديد.
فاختارت الأم كما اختار لها القدر أن تحط وصغارها الرحال بمنطقة الشقلة بحي أبو سعد بقلب أم درمان, ولأنها لم تكن تملك من المال شيئاً وفيراً يمكنها من اقتناء منزل, ولأنها تعرف جيداً إمكاناتها ومعطيات حياتها البسيطة, ولأنها تنبهت إلى أن المكان قد لا يرحب بأمثالها, بحثت ووقع الاختيار على مكان صغير والمكان في ذاته حفرة، وحفرة عميقة.. ولأنها تُريد السكن وإذا أراد المرء فلابد أن يستجيب القدر, حزمت وسطها بطرحتها وبدأت هي وصغارها الذين هم أبناؤها وأحفادها الأيتام في ردم الحفرة.. تخيلوا ردم حفرة كاملة وعميقة وممتدة على مساحة منزل كامل.. ومن.. امرأة وبعض الصغار.. تقاسموا التعب والمطر والشمس وما توقفوا.. توقفت رحمة البني آدمين وما توقفوا.. انقطع ما لديهم من مال وما توقفوا.. تغيرت الفصول وهم يعملون ويحملون ويشتركون في اقتسام الشيء الوحيد الذي تبقى لهم (حنان أمهم).. أم جمعة آدم حامد امرأة بحنان خرافي وقدر من الطيبة كبير، تشبه بذلك غالب أمهات السودان ولأنهم اجتهدوا.. فقد ساعدهم الله وأتموا ردم الحفرة.. كما نصحهم ضابط التخطيط الذي رفض أن يسجل قطعة الأرض لأنها موانع, قائلاً لأم جمعة آنذاك: أردميها إذا أردت أن تسجل لك.. وهي مع صغارها تنتهي من الردم في 26/1/2010م وها هو الحلم يوشك والأماني تتقدم.
ولكن الدنيا كما يقول أهلنا (بتوريك العجب العجاب)، وأم جمعة تعود بعد عناء يوم متعب إلى الحفرة القديمة التي ردمتها بعرقها وجهدها وحنانها ودموع صغارها, وتُشيد عليها غرفة وراكوبة لتعانق الصغار.. فإذا بها تنهار تماماً.. فأمام أعينها يرقد الصغار في العراء, كما كانوا عندما هرب والدهم وتركهم لها في العام 1991م فتطلقت منه غيابياً, واجتهدت حتى تبني هذا المكان.. 150 رجل شركة جاءوا وهدموا المكان وبأمر قضائي من قاضي محكمة مخالفات الأراضي بالصحافة مولاناء السموأل, كتعويض لامرأة اسمها مريم تسكن بذات الحي بعيداً عن أم جمعة وصغارها.. 150 رجل شرطة في مواجهة أم جمعة والصغار وأحلامها المشروعة في مكانٍ يلم شمل الأسرة المكونة من 15 طفلاً هم من الأبناء والأحفاد.. 15 طفلاً هم في العراء ومشردون تماماً.. 15 طفلاً البرد يتسلل يومياً إلى عظامهم وينخرها ببطء ولذة.. مفردات قالتها أم جمعة وهي تطرح دمعها قبل حكايتها.
وصارخة بالصوت العالي: كلموا لي عمر البشير.. ووالي الخرطوم ليرفعوا الظلم عن عيالي.. وأن يلموا صغاري من الشارع..
كتبت: رجاء مجذوب
صحيفة الاسطورة