خلال بحثي لكتابة التحقيق الصحفي: (من ضيَّع السودان؟ عشر مخازي سودانية) لفت نظري شيء مثير للدهشة.. في المخازي التي سردتها حتى الآن وعددها خمس.. ثم السابعة والتي سوف تنشر بعد غدٍ إن شاء الله تلعب الصحافة خاصة والإعلام عموماً دوراً عجيباً.. مخيباً.. تعلن الحكومة قراراً خطيراً وخاطئاً فتندفع الأقلام الصحفية بمنتهى الحماس تؤيد الحكومة.. ثم تكتشف الحكومة خطل قرارها فتتراجع فتندفع ذات الأقلام وتؤيد الحكومة بنفس الحماس.
مثلاً.. قرارات الرئيس النميري -الكارثية- بتأميم ومصادرة البنوك والشركات السودانية والأجنبية.. استل كبار الكتاب والصحفيون أقلامهم وخاضوا حرباً شعواء تأييداً للرئيس النميري,, حتى وضعوه في مقام: من لا يُسأل عمَّ يفعل (والعياذ بالله).. واصبغوا عليه الألقاب الثورية.. ثم بعد سنوات قليلة اتضح للرئيس النميري حماقته وفعلته النكراء التي دمرت الاقتصاد السوداني حتى اليوم.. فتراجع عن قراراته.. فإذا بنفس الأقلام تنثر الدرر حول الرئيس.. وعبقريته ووطنيته وثاقب بصيرته.
في الحلقة القادمة بإذن الله بعد غدٍ.. قد يحتاج القراء إلى وضع (علبة مناديل ورق) بجانبهم قبل مطالعة التحقيق.. القرار الذي ساستعرضه كان واضحاً منذ أول يوم أنه عبثي وجنوني.. ومع ذلك طفحت صفحات الصحف بالكتابات الممجدة لعبقرية الرئيس والإلهام الذي ينير أفكاره وقراراته.. في ذات اللحظة التي كان فيها الشعب السوداني كله يبكي من هذا القرار العجيب ويلعن في سره وفي علنه كل من ارتبط به.. ثم بعد حوالي عام انحنى الرئيس نميري للعواصف وتراجع عن قراره.. فإذا بالأقلام -ذات الأقلام- تعاود إشعال الألعاب النارية فرحاً بالفكرة الذكية وتجدد الإلهام في الاتجاه المعاكس.. رغم أن قرار الرئيس النميري لا نزال حتى اليوم نلعق خزيه وندامته ونتائجه المُرة الفظيعة.
الذي يحيرني في هذه الأقلام.. ألا يعلمون أن ما يسطرونه يظل مسجلاً في التاريخ ولا يمسح.. ليس في الحاضر فقط وإنما عبر الأجيال والمستقبل.. فمحكمة التاريخ لا تعرف مبدأ (الإفلات من المحاسبة).
هل تصدق أن الرئيس النميري غضب من الشعب السوداني بسبب حادثة تعرض لها فأصدر قراراً بمعاقبة كل الشعب السوداني عن بكرة أبيه.. صغيره وكبيره عقاباً مُراً أليماً.. ومع ذلك لم يعدم (المطبلاتية) الذين أفرغوا عليه كل الصفات العبقرية.. ولم يكن في إمكانه إلا أن يصدقهم فأمعن في قراراته العقابية ضد الشعب.. والأقلام من ورائه تحرق له بخور النصر.
والله العظيم، الذين يقرأون الحلقة القادمة من التحقيق الصحفي (من ضيَّع السودان؟ عشر مخازي سودانية) من الأجيال الجديدة التي لم تعايش تلك الأحداث لن يصدقوا ما سيقرأونه وسيظنوا أنها محض مبالغة وضرب من الخيال.. لأنه فوق التصور والمعقولية.. لكنه ما حدث بالضبط لم أزد فيه حرفاً واحداً..
على كل حال.. هذا هو تاريخنا..!!
عثمان ميرغني
حديث المدينة – صحيفة التيار
[Email]hadeeth.almadina@gmail.com[/Email]