ووفقاً لنظرية كارل، كانت مصر ترتب للعب دور إقليمي، من غير رضوخ كامل للمثالية المطلقة، أيّ أنّه لا يوجد هناك نوع من التناغم والانسجام والهرمية في المصالح الدولية، إنّما القوة هي المعيار الأساسي الذي تجده الدولة مفيداً لتحقيق أهدافها وحماية مصالحها الوطنية. أما ما يطبقه السيسي، الآن، من وصايا ميكيافيللي في مضمار العلاقات الدولية، فهو رفض المثالية والتصورات المبنية على أفكار فلسفية، أو أخلاقية، حول تكوين أحلاف، وفقاً لتوازن القوى.
قبل شهرين من انقلاب 3 يوليو 2013، كان خبراء عسكريون مصريون يعتبرون أنّ زيارة وزير الدفاع المصري وقتها، عبد الفتاح السيسي، في مايو/أيار من العام نفسه إلى تركيا، مقدمة لإقامة “تعاون استراتيجي” متكامل بين البلدين. تبدلت المواقف، مثلما تبدلت الأحداث بعد الانقلاب، إلى درجة قيادة مصر حلفاً متوسطياً ضد تركيا، يضم اليونان وقبرص، بينما تركت تركيا ذلك مشتعلاً، واتجهت إلى أفريقيا جنوب الصحراء.
تزايد التراشق التركي المصري، بعد أن أعلنت تركيا استياءها من السماح للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإلقاء كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وليس هذا الموقف الوحيد، وإنما انتقد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، موقف الأمم المتحدة والدول الديمقراطية من رئيس انقلب على الشرعية ضد رئيس منتخب وقتل آلافاً ممن خرجوا عليه، وسؤاله ما إذا كانت الأمم المتحدة “مكاناً مناسباً لكي يلقي فيه الانقلابيون خطاباتهم”.
أما كلمة السيسي أمام الأمم المتحدة، والتي تصلح لأن تكون مرافعة عما يقوم به نظامه، فقد حاولت التبرير لما يقوم به، وما يتيح له أن يكون قاسياً يبطش، ويستخدم القوة متى ما دعت الحاجة، وفقاً لاحتياجات البقاء والأمن، بدعوى محاربة الإرهاب. وقد أكثر من ذكر محاربة الإرهاب التي ألبسها لبوس أغراضه الحاكمية، وهو يعلم أنّها تهزّ كيان الغرب، وتفعل فعلتها فيه، بما لا يحتمله قلبه المرهف.
ما يجمع مصر واليونان وقبرص هي العلاقات المتوترة مع تركيا، فضلاً عمّا أعلنته الدول الثلاث، أخيراً، عن تشكيل تحالف أمني “لاقتلاع الإرهاب من جذوره” وتحالف اقتصادي وسياسي في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط.
وقد زخر “إعلان القاهرة” بين مصر واليونان وقبرص الذي اتفق فيه الرئيس السيسي مع الرئيس القبرصي، نيكوس أناستاسيادس، ورئيس الوزراء اليوناني، أنتونيس ساماراس، بخلط أوراق إقليمية كثيرة. لم يغادر نص الإعلان ترسيم الحدود البحرية والذي يُعتبر حقّاً مشروعا، يمكن لمصر أن ترعاه، باستئناف المفاوضات، بشكل لا يستدعي تلويح الرئيس بفزاعة الإرهاب، كلما عنّ شأن في العلاقات الدولية. ونظراً لأنّ علاقة مصر بقبرص تحكمها محددات جيوسياسية، يتداخل فيها السياسي مع الاقتصادي مع الجغرافي، فهذا يشجع على التعاون، إذ لا يُفترض أن يتغذى على المشكلة القبرصية وصراع الطائفتين، التركية واليونانية، على أراضيها ومقدار ما يحدثه هذا النوع من استقطاب.
وإن ثارت بعض الخلافات حول الحدود المائية بين مصر وقبرص وتركيا، بالإضافة إلى إسرائيل في شرق البحر المتوسط، في الماضي، بسبب حقول الغاز الطبيعي، فإنّ ما يجمع هذه الدول وتركيا أكثر من العامل الاقتصادي الواضح للعيان. خصوصاً إذا تناهى إلى العلم أنّ الغاز الطبيعي، موضع تحركات الاستحواذ، قد لا يكون متاحاً، الآن، نظراً للتحذير التركي من التنقيب عنه، قبل حسم قضية تقسيم الجزيرة القبرصية.
”
إن اتجهت تركيا إلى أفريقيا جنوب الصحراء، فإنّ مصر وإسرائيل ستجدان في شرق المتوسط قوة إضافية لتشكيل حلف يعمل على الإخلال بالتوازن الإقليمي في المنطقة
”
يواجه تركيا تحدي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبينما تعتبر اليونان أكثر الدول اعتراضاً على هذا الانضمام، بسبب الخلاف التاريخي بينهما، حمل الرئيس القبرصي ورئيس الوزراء اليوناني صك رضا الاتحاد عن مصر، بوعدهما بالعمل على التوسط لتحسين علاقات مصر معه. وتركيا، اليوم، لا تقف عند هذه النقطة، بتبدد فلسفة مصطفى كمال أتاتورك، بتثبيت دعائم العلمانية في تركيا، وحصرها في الإطار الأوروبي، فقد اتجهت مباشرة إلى أفريقيا، تحاول تعويض بعدها عن القارة في الحرب الباردة.
مسرح تركيا الأفريقي الجديد قد لا يشغل بال قبرص واليونان، بقدر ما يثير الهلع في قلب مصر وإسرائيل. وإن اتجهت تركيا إلى إفريقيا جنوب الصحراء، فإنّ مصر وإسرائيل ستجدان في شرق المتوسط قوة إضافية لتشكيل حلف يعمل على الإخلال بالتوازن الإقليمي في المنطقة.
فتش عن إسرائيل خلف كل علاقة دولية في المنطقة، فبعد شكواها الحالية لتركيا وطلبها بطردها من حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بتهمة احتضان تركيا قيادة حماس، يصبح جليّاً أنّ التحركات التركية تقضّ مضجعها. فإذا اعتقدت إسرائيل أنّ حماس في تركيا، فما على مصر السيسي إلّا أن تتحرك، وفقاً لردود الاعتقاد هذا، ناذرة نفسها للقيام بالمهمة، متأرجحة بين التحريض ومصالحها المبنية على واقعية ميكيافيللي.
الكاتبة : منى عبد الفتاح