تشهد الساحة الداخية على صعيد الجنوب كل يوم تطوراً نحو الاسوأ وبدأت اتفاقية السلام تتخذ صورة رسمها رئيس المجلس التشريعي بجنوب السودان (جيمس واني ايقا)، وهو يتحدث لحشد من قيادات المؤتمر الوطني قبل ستة اشهر من الآن إن اتفاقية السلام أصبحت مثل رجل (مخمور) يسير مترنحاً في الشارع العام، لكننا لن ندعه يسقط، ومثل توصيف د.غازي صلاح لمشروع الحركة الإسلامية وهو يتحدث قبل عامين لجمع من النخب والمثقفين بقاعة الشهيد الزبير، وقال نحن نسير على حافة الهاوية دون السقوط في قاعها..
وخلال الأسبوع الماضي كان مقرراً انفضاض جلسات البرلمان وإجازة القوانين المختلف عليها، لكن أبرز أحداث الأسبوع ما كتبه د.الواثق كمير، فهل تقدم د.الواثق كمير باستقالته من الحركة الشعبية فكرياً وسياسيا؟ وحافظ في ذات الوقت على وشائج الصداقة والروابط التنظيمية التي أخذت في الوهن والضعف بين الشماليين من جهة والجنوبيين من جهه أخرى
منذ إدارة الحركة الشعبية لظهرها للنصوص الحاكمة بشأن الوحدة الجاذبة، وإجراءات تعزيز الثقة الواردة في نص الاتفاقية، واهتمام الحركة بقانون إستفتاء الجنوبيين للاختيار مابين الوحدة والانفصال، واختار د.الواثق كمير المثقف المفجوع بدفن مشروع السودان الجديد مع الراحل د. جون قرنق في مرقده الأخير وسط عاصمة الجنوب، (جوبا).. كيف ذلك و د. الواثق كمير يقول نصا:ً (اضحت قواعد الحركة الشعبية المنظمة وجماهيرها ومناصريها (ممن تحروا فيها الخير) والقوس داخل القوسين كتبها د.الواثق كمير بقلمه) في حيرة من أمرهم، إذ بات هاجس الانفصال يؤرق منامهم، وأصبحوا يتساءلون هل نفضت الحركة يدها عن ورقة السودان الجديد؟ فهم انضموا للحركة من أجل سودان جديد موحد فوجدوا أنفسهم كأنهم يسبحون عكس التيار) تبدت خيبة ألأمل في عبارات د.الواثق كمير الذي كان قريباً من د. جون قرنق، ليجد نفسه اليوم بنص قانون الاستفتاء الذي أقرته الحركة الشعبية محروماً من حقه في ابداء الرأي، هل ينفصل الجنوب ويصبح دولة مستقلة أم يبقى جزءاً من السودان؟ في وقت منح هذا الحق للجنوبي الذي ظل لمدة 20 عاماً يقاتل في صف الحكومة المركزية، ويناهض الحركة الشعبية، ويهتف في التظاهرات والحشود، (خائن..خائن ياقرنق)، بينما الواثق و د.محمد سعيد بازرعة، وياسر عرمان، واختاروا بطوعهم خندق الحركة الشعبية، وفي سبيلها كتب الواثق كمير (السودان الجديد رؤية د. جون قرنق) ونافح عرمان عن حق الجنوبيين في الثروه والسلطة، لتبدأ اليوم المرحلة الأولى لخذلان الحركة الشعبية لأعضائها وعناصرها الفعالة، وحملة المباخر للراحل جون قرنق والعاكفين حول مشروع السودان الجديد والركع السجود !!
النكوص عن الوحدة
لم يبدأ نكوص الحركة الشعبية عن وحدة السودان مع الأزمة السياسية الخانقة، التي اعترت جسد الشراكة، بعد طرح مسودات قانون الأمن الوطني، ولا قانون الاستفتاء والمشورة الشعبية، بيد أن النكوص عن الوحدة ودفن عصا الانفصال نبتت أعشابه في أحشاء نصوص الاتفاقية وحدها، تلك النصوص (حمالة) الأوجه في التفسير لكل الطرفين، فالمؤتمر الوطني من وازع الخوف والفزع تحمل تبعات المسؤولية التاريخية عن تقسيم السودان لدولتين، كان الأحرص على التزام الطرفين بالسعي والعمل الجاد، والتبشير بوحدة السودان، لكن الحركة الشعبية اختارت بمحض إرادتها الوقوف في (الحياد) السلبي إزاء الانفصال، وغطت وجهها برداء شفاف (الجنوبيين أحرار في اختيار الوحدة أو الانفصال) وهو موقف سالب من الوحدة، فكيف يبرر تنظيم سياسي وفصيل عسكري، مثل الحركة الشعبية (الحياد) حيال قضية في سبيلها أزهقت أرواح المؤسسين لحركة المقاومة الجنوبية الانفصالية، (قوات الأنانيا) في أثيوبيا، ومات صموئيل قاي توت، وقتل القاضي مارتي ماجير، في ظروف غامضة أثناء الحرب، وخاضت الحركة حروباً طاحنة في مواجهة الانفصاليين من جماعة الناصر التي انقلبت علي د. جون قرنق بقيادة نائب رئيس الحركة الشعبية الحالي د.رياك مشار.. يقول د.الواثق كمير بما يشبه الاعترافات الصريحة ونقد الذات، إن الانفصال المتوقع لجنوب السودان سيخلق أوضاعاً قابلة للانفجار في منطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، (الانقسنا) خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التفسيرات المتضاربة للشريكين، لمعني ومفهوم المشورة الشعبية الواردة في البروتكول الخاص في المنطقتين!!هنا يضع د. الواثق كمير أصبعه على الجرح الذي لا تشعر بآلامه حتي اليوم قيادات الحركة الشعبية القابضة على زمام المبادرة ومفاصل التنظيم والجيش الشعبي، فالحركة الشعبية لن تفلح في إيجاد مبرر أخلاقي تخاطب به على الأقل نحو 4 آلاف من جنودها وضباطها الذين ينضمون حالياً إلى صفوف الجيش الشعبي من أبناء جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق (الانقسنا)، فهؤلاء تعرضو للعقاب مرتين كيف ذلك؟ عاقبتهم الحركة الشعبية باتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية، الذي نص على سحب جيش الحركة الشعبية من المنطقتين خلال الفترة الانتقالية، والاحتفاظ بما نص عليه بروتكول الترتيبات الأمنية والعسكرية، الذي نص في المادة ج الفقرة الثانية على أن تتولى القوات المشتركة المدمجة مهام حفظ الأمن وعددها 6 آلاف جندي، مناصفة بين الجيش الشعبي والقوات المسلحة، وتم سحب أبناء تلك المناطق جنوب حدود 1956، وبذلك تم حرمانهم من حق الاسترخاء ومن وعثاء حرب امتدت لـ 20 عاماً، وذهب منهم للجنوب من ذهب، وخلع البزة العسكرية من خلع، ولم تجرؤ الحركة الشعبية على مخاطبة هؤلاء لتبرير دواعي وأسباب (إنكفائها) جنوبا حتي يقررون مصيرهم، بعد أن يقررالجنوبيون مصيرهم في عام 2011م
وتجد قيادات الحركة الشعبية نفسها في وضع بالغ التعقيد، لماذا تخلت عن مشروع السودان الجديد واختارت الانفصال في منتصف الفترة الانتقالية (لتبيع) مصالح الطبقة الحاكمة بمستقبلها السياسي في جنوب السودان وحده، حينما تواجه أسئله من شاكلة لماذا تنكرت الحركة الشعبية لشعارات الوحدة واختارت الطرق السهلة؟ ثم أين اسهامات قطاع الشمال في معادلتي الوحدة والانفصال، وقد تم تمثيل قطاع الشمال بثلث أعضاء المؤتمر العام للحركة الشعبية، فهل يصبح هذا القطاع (جيب سياسي) لدولة الجنوب في شمال السودان الذي يتربص بهذا القطاع، ولن يجد حرجاً في حذو الدولة الأروبية التي استعمرت السودان من قبل بريطانيا، وهي تحظر نشاط الجيش الجمهوري الايرلندي وتعتبره منظمة ارهابية !!
واقعية د. الواثق كمير في مقاله الرصين، وهو يبعث الأمل في نفوس قادة مشروع السودان الجديد (سابقاً) الذين اختاروا التقوقع والتقهقر جنوباً في انتظار الانفصال الحتمي، فإن الأهداف العليا التي سعى لها الزنوج الامريكان، تحققت بعد سنوات طويلة، حيث جلس على عرش السلطة في البيت الأبيض الرئيس (أوباما) كأول أمريكي أسود يجلس على كرسي سبقه عليه 43 رئيساً، كان آخرهم جورج بوش.. لكن الجنوبيين ضاق صدرهم واسرعوا الخطى نحو الانفصال، باعتباره الخيار السهل بدلاً عن دروب النضال السلمية، التي قد تستغرق وقتاً طويلاً جداً، ولم يقرأ د. الواثق كمير نفسيات أهل هذا البلد جنوبيين أم شماليين، يزرعون اليوم ويترقبون الحصاد غدا،ً ويتعجلون النتائج، كأن القيامة قد حُدد موعد قيامها غداً، وأياً كانت حسرة مثقف في قامة الواثق كمير تبقى قضية الوحدة والانفصال متقدة النيران، وإن تعامى عنها الناس …
ولكن واقع السياسة في السودان اليوم ينبئ بأخبار غير سارة للسودانيين في حال تمادي الطرفين الكبيرين في خلافاتهما الحالية ومزايدتهما، التي وضعت اتفاقية السلام في امتحان عسير جداً، بل الامتحان الحقيقي للذين صنعوا هذا الإنجاز الكبير، ولكن حفروا لروحه جب عميق ليوارى عليه الجسد المطحون في كل مكان، وتبقى صرخات المثقفين ترتد اليهم، ومن بيدهم القرار يعتبرونها تسجية لفراغات من لا يشغلهم اجتماع تنظيمي، أو حشد جماهيري أو أداء وظيفي.
المصدر : صحيفة آخر لحظة