للمرة الواحدة بعد الألف، من المقاطعة أو التهديد بالمقاطعة، تنسحب الأقلية الميكانيكية للحركة الشعبية من جلسة الهيئة التشريعية المخصصة لإجازة قانون استفتاء جنوب السودان؛ وهو القانون الذي استغرق إعداده ثمانية عشر شهراً، كان ابتداؤها يوم أن تلقته أيادي القابلات الأُوَل من أهل القانون والسياسة، إلى أن أصبح حدثاً يافعا وهو في كنف المفوضية القومية للمراجعة الدستورية، إلى أن طرّ شاربه وهو بين يدي المبعوث الأمريكي فيما عرف بالمباحثات الثلاثية في واشنطن والخرطوم وجوبا، وحتى بلغ أشده واكتهل وهو بين يدي اللجنة السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية برئاسة السيدين علي عثمان محمد طه ورياك مشار.
ثمانية عشر شهراً من تحري الإجماع السياسي أطاحت بها الحركة الشعبية بكل يسر وسهولة بسبب خلاف حول بند فرعي من مادة واحدة وحكمت على القانون بالإعدام رمياً بالرصاص. ولن يكون همنا في هذه الكلمة الموجزة أن نتحدث عن الأخلاق السياسية والمسالك التي ينبغي أن تتجنبها القوى السياسية وما يعاب على الأقلية الميكانيكية من اختيار منهج التأزيم والتعطيل وتحقيق المكاسب من خلال تكتيكات المقاطعة والحرد. سيكون همنا منصباً فقط نحو تشريح البند المشار إليه أعلاه، وطرح تساؤلات مهمة حول التزامات الحركة الشعبية نحو قضايا الحرية والديمقراطية وكل ما يطرحه مشروع السودان الجديد من وعود.
السبب الذي خرجت بسببه الحركة من الهيئة التشريعية عند مناقشة قانون الاستفتاء يوم أمس هو البند (3) من المادة 27 من القانون. وهو البند الذي يحرم فئة محددة من أبناء الجنوب من ممارسة حقهم في الاستفتاء إلا إذا ذهبوا إلى مراكز التسجيل والاقتراع في جنوب السودان وليس في أي «موقع آخر». من هي تلك الفئة؟ إنها كما تقول المادة نصاً « كل من تعود أصوله إلى أحد الأصول الإثنية في جنوب السودان ولم يكن مقيماً إقامة دائمة دون انقطاع في جنوب السودان قبل أو منذ الأول من يناير 1956» .
بشرح مبسط يتجنب اللغة القانونية الملفلفة، أنت لا تستطيع أن تسجل أو تمارس حقك في التصويت في تقرير مصير جنوب السودان في المراكز المخصصة لذلك في شمال السودان، أو في الولايات المتحدة الأمريكية أو في أسترالياأو كندا، على سبيل المثال، إذا كنت جنوبياً من ذرية من هاجر إلى الشمال قبل عشرات السنين، حتى لو كنت من نسل عبد الفضيل ألماظ، البطل القومي المعروف. بل أنت لا تستطيع أن تسجل أو تمارس حقك الانتخابي في تلك المراكز إذا كنت جنوبياً مولودا في الشمال قبل ثمانية عشر سنة ولم تعد إلى الجنوب لأن أهلك اضطروا إلى النزوح إلى الشمال في وجه فظائع الحرب.
بشرح أكثر تبسيطاً، إذا وجد جنوبي من هذه الفئة منكودة الحظ الموصوفة أعلاه وكان مقيما بحلفا دغيم في أقصى الشمال أو في بورتسودان في أقصى الشرق، وكانت أصوله الإثنية تعود إلى قبيلة التبوسا مثلا، فعليه أولا أن يسافر، على حسابه الخاص بالطبع، للتسجيل في كبويتا في شرق الاستوائية. ولما كانت هناك مسافة زمنية بين التسجيل والتصويت وكانت لديه أشغال ومصالح في المكان الذي جاء منه من شمال السودان، فسيعود،صديقنا سيء الحظ، على حسابه الخاص بالطبع، من حيث أتى. ثم مرة أخرى عندما ينادى بالاقتراع من أجل تقرير مصير جنوب السودان، فعليه أن يحضر من حلفا دغيم، أو من بورتسودان، أو من نيالا، على حسابه الخاص بالطبع، للتصويت في كبويتا.
كل هذه المشقة ليست بسبب أنه لا توجد مراكز لتسجيل الجنوبيين ولممارسة حقهم في الاقتراع في الشمال في حلفا دغيم، أو بورتسودان، أو نيالا. كلا، فالقانون يسمح بأن تقوم هذه المراكز إذا توفرت شروط معينة من حيث عدد الجنوبيين. يعني هذا أن صديقنا التبوساوي سيء الحظ، لأن والدته قد أنجبته قبل ثمانية عشر عاما (السن القانونية للاقتراع)في شمال السودان لما هربت من فظائع الحرب في الجنوب وهو لم يعد إليه، يمكن أن يكون مقيما بمدينة بورتسودان على مرمى حجر من أحد تلك المراكز التي ينشؤها القانون، لكن لن يكون بمقدوره التسجيل أو الاقتراع في ذلك المركز في بورتسودان وعليه أن يقوم بتلك الرحلة الأسطورية مرتين من أجل أن يمارس حقه. ولا شك أن القيام بهاتين الرحلتين المضنيتين المرهقتين ماديا وجسدياً يستوجب أن يكون لدى صديقنا هذا إيمان بقضيته كإيمان نبي الله نوح؛ وهذا يعني أن يكون التصويت وفق التقييد الذي يفرضه البند (3) صفراً بين هذه الفئة من الجنوبيين، أي أن البند (3) من المادة 27 يأخذ من هذه الفئة من الجنوبيين بالشمال الملتفة وراء الظهر ما يعطيه باليمين الظاهرة للعيان.
لكن السؤال الأهم من ذلك كله هو لمن تنشأ مراكز التسجيل والاقتراع في الشمال وفي «مواقع أخرى» خارج السودان كما نص على ذلك القانون في المادة 27 (2)؟ إنها تنشأ ليس من أجل راحة صديقنا المذكور في هذه القصة ومن لف لفه من الجنوبيين بالطبع، إنها تنشا من أجل راحة فئة أكثر تميزا من الجنوبيين. وفي هذه الفئة يقع كثير من القيادات وأهل الحظوة الذين يسهل عليهم أن يثبتوا أنهم جنوبيون كانوا مقيمين في الجنوب، على فترات على الأقل بعد عام 1956.
هذا التقييد لحقّ بعض الجنوبيين في التسجيل والاقتراع دون بقية الجنوبيين يشي بأنهم ليسوا أهل ثقة، أو أنهم لا يمثلون الجنوب بصورة كافية ولذلك لا بد من تشديد التأكد من تمثيلهم للجنوب عبر فرض هذه الرحلات المضنية عليهم. هذا التمييز غير الدستوري بين فئتين من الجنوبيين، الجنوبي الممتاز والجنوبي العادي، الجنوبي نخب أول والجنوبي نخب ثان، هو الذي رفضناه بالأمس لأنه يقيم نظام أبارتايد انتخابي. وهو نفس النظام الذي طالبت به الحركة الشعبية وقاطعت إجازة القانون بسببه.
عندما يتحدث بعض الناس عن التهميش فإنهم في الغالب يقصدون التهميش الاجتماعي، أي التهميش الذي يمارسه المجتمع دون قوانين مكتوبة. أما أن يصبح التهميش مقننا بتشريعات مكتوبة يجيزها البرلمان فهذا ينقلنا إلى مرحلة غير مألوفة من التهميش. وهذا ما ينبغي رفضه من ناحية مبدئية. ومن حسن الطالع أن الهيئة التشريعية القومية انتبهت لذلك وأجازت القانون الذي استغرق إعداده ثمانية عشر شهراً بإجماع كبير، وهو الآن قانون أفضل بعد أن أزيلت منه كل الأورام التمييزية الخبيثة.
صحيفة آخر لحظة : د.غازي صلاح الدين
* رئيس كتلة نواب المؤتمر الوطني بالهيئة التشريعية القومية