التحاقي بمؤسسة الاتصالات القطرية كيوتل رئيسا لقسم الترجمة، مثّل البداية الحقيقية لمواكبتي للقرن العشرين، فمن مكاسب العمل في مجال الترجمة أنه يوسع مداركك، ويجعلك ملما بأمور كثيرة في مجالات أخرى غير مجال تخصصك الأكاديمي، فالمترجم يعمل يوما في ترجمة تقرير مالي وبعده تأتي العقود القانونية، والمنشورات والتعاميم الإدارية والنصوص الفنية (تكنيكال)، وهلم جرا، ولكن العمل مترجما في مؤسسة اتصالات ابتداء من أواخر الثمانينيات كان يعني اللهاث لمتابعة الطفرات المتتالية والمتوالية في مجال الاتصالات، وكانت أول طفرة تفاخرنا بها في كيوتل، هي تزويد شبكتنا بخاصية كشف رقم المتصل بالهواتف الأرضية، ووضع ذلك حدا للمعاكسات الهاتفية، والإزعاج الهاتفي من قبل أشخاص ذوي نفوس مريضة يجلسون أمام التلفون في أنصاص الليالي ويديرون الأرقام عشوائيا، فترد على المكالمة، وقد لا يبادلك الحديث، وكان هناك النوع الذي ترد على اتصال منه فلا تسمع منه إلا تأوهات، وكانت سلطات الشرطة تتلقى العديد من الشكاوى المتعلقة بالإزعاج والمعاكسات الهاتفية، ولكنني صرت يوما ما ضحية الهاتف كاشف الأرقام، فقد «زوغت» من العمل وعدت إلى البيت لأمر ما فاتصل بي أحد زملاء العمل قائلا إنه اتصل بي مرارا على هاتف مكتبي ولم يتلق ردا ثم علم أنني خارج مبنى المؤسسة فجرب الاتصال بي على رقم بيتي، ورددت على مكالمته لأنني عرفت أن الرقم يخص المؤسسة (كيوتل) لأن رقمها ظهر على شاشة هاتف منزلي، المهم أنه أبلغني أن المدير العام يسأل عني، فأحسست بالحرج الشديد، واتصلت بسكرتيرة المدير العام، وقلت لها إنني في المستشفى وسأكون في المؤسسة بعد حوالي نصف ساعة، فضحكت وقالت: بس هاي رقم بيتك، ففقدت القدرة على النطق نحو دقيقة كاملة وأصبح الحرج مضاعفا: مزوغ وكذاب وشغال في شركة اتصالات وناسي أن رقم المتصل يظهر على شاشة التلفون الآخر. ثم استجمعت أنفاسي وقلت لها: خلاص انكتمي وأنا جاي المؤسسة وراح اتصرف.
ورغم أنني كنت قبل التحاقي بكيوتل قد مارست الترجمة على الورق، وترجمت نحو أربعة كتب، اثنان منها عن صناعة النفط في العالم العربي والثالث عن جغرافية إريتريا والرابع «الكتاب السنوي لدولة الإمارات»، وكان عبارة عن موسوعة مصغّرة تتناول شتى جوانب الحياة في الإمارات، ثم مارست الترجمة الفورية في اجتماعات منظمات دولية وإقليمية، وكنت المترجم المعتمد لدى وزارة الخارجية في الإمارات خلال ما كان يسمى بالمواسم الثقافية حيث كانت الوزارة تأتي بسياسيين وبرلمانيين وأصحاب الفكر ليشاركوا في ندوات ويقدموا محاضرات، رغم كل ذلك فإن مهارات الترجمة التي اكتسبتها في كيوتل في سنواتي الثلاث الأولى فيها كانت تعادل كل خبرتي السابقة في الترجمة لدى مختلف الجهات، فعندما تعمل في مؤسسة ضخمة مثل كيوتل، لها تواصل منتظم مع الجمهور المحلي وشركات الاتصالات الأجنبية، فإنك تمر على نصوص متنوعة في مختلف المجالات، وكما ذكرت مرارا في مقالاتي فقد تعلمت من تجربة العمل مترجما في شركة أرامكو النفطية، إن المترجم الناجح هو الذي يترجم النص عن فهم، أي من يسأل أهل العلم والتخصص المقصود بكلمات ومصطلحات معينة، ويستعين بالتلفون أكثر من استعانته بالقواميس، وهكذا سببت «وجع راس» للمهندسين والمحاسبين والإداريين في كيوتل، ولم أكن أكتفي بالاستفسارات الهاتفية بل كنت أتفادى الإكثار من طرح الأسئلة عليهم عبر الهاتف وأزورهم في مكاتبهم وأجلس معهم، لا ليعطوني المفردة المقابلة لمفردة ما بالإنجليزية أو العربية، بل ليشرحوا لي مغزاها ومعناها، ولم يساعدني ذلك فقط في تعزيز ذخيرتي اللغوية بل في إقامة علاقات مازالت قوية مع معظم العاملين في المؤسسة رغم أنني غادرتها من نحو عشرين سنة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]