* (الحرب على الفساد) اسم مسلسل تركي بدأنا مشاهدة حلقاته في السنوات الفائتة، ثم سرعان ما نسي الناس المصطلح والشعار، فكل سياسي حاذق يمتلك ناصية حسن البيان، وأدوات (المواكبة)، ولغة العصر، ومفردات دغدغة وجدان الجماهير، يحدثنا عن اجتثاث جذور الفساد ونسف رموزه وتخليص البلد من قبضته.. تسمع تصريحات قادة المعارضة تكاد تجزم بأن الحكومة غارقة في الفساد من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها، وعندما تتابع تصريحات المسؤولين تتحسس (جيوبك الفارغة) وينتابك شعور بأنك أحد المقصودين بهذه الحرب الشعواء وربما تتوجه (طوعاً) لتقديم (إبراء ذمة) في ميدان عام، فإذا كانت الحكومة ستحارب المفسدين في الأرض، فهذا يعني أنها ستتخلص من نصف وزنها، لأن الفساد إما من منسوبيها أو تحت رعاية بعض نافذيها أو استشرائه تم نتيجة (غفلة) من وضعتهم لمراقبة وحفظ موارد البلاد وحقوق المواطنين.!!
* ليس مهماً إعلان (الحرب على الفساد) أو توقيع (اتفاقية سلام) مع قادته، ولكن المهم حقاً ألا تلوك الدولة الحديث عن الفساد دون اتخاذ خطوات عملية وإجراءات حاسمة وأن تدخل جيوش الحرب كافة أوكار المفسدين وتدقق في ملفاتهم ومشاريعهم مهما كبرت أسماؤهم وعلا وزنها، حتى لا يصبح الحديث عن تجفيف منابع الفساد مجرد (دعاية سياسية) واستهلاك يهدف لتخدير الناس ومواكبة الدعوات المنطلقة من حولنا لتحقيق ذات الهدف، فحينها سيصبح (عين الفساد) في الدعوة لإعلان الحرب على الفساد، لأن الحديث سيضحى مثل لفافة التبغ ندخنها ولا يصيبنا منها سوى المرض.!
* لماذا غابت (ملفات الفساد) عن الإعلام مع أن مادتها ثرة و(بذورها) يمكن أن تخضِّر بور الواقع المأساوي دون الحاجة إلى (تقاوى) محسنة.؟؟
* الفساد يضرب بيد من حديد في كل اتجاه حتى بات ثقافة، ومن يشذ عنها ينظر له الناس شذراً.. تغيرت المسميات تماماً وتبدلت الصفات .!!
* واحدة من أجمل الرسائل التي وصلتني قبل فترة، رسالة بليغة بعث بها الخريج الجامعي، حاتم عبدالباقي، لخص خلالها التغييرات المجتمعية بعبارات واضحة ومفردات من قاموس تعاملاتنا اليومي، ووضع يده على مكان الجرح، وهو يقول في رسالته: (كثير من المفاهيم اتغيرت في الزمن ده، وأصبح الكذب (شفتنه) واللعب بمشاعر الناس (حنك)، وأعراض الناس يتم تناولها في ونسة (جبنة) في البيوت، اللبس على الطريقة الغربية (إستايل)، وتناول المخدرات (البنقو) عنوان للرجولة، الصاحب والصديق الوفي (فارة)، والبياكل أموال الناس بالباطل (مُرطب)، والسرقة (شرف)، و(الحرامي) يمشي بين الناس وكأنه شريف زمانه.. وفي المناسبات يقول ليك فلان جاء والغريبة إنو فلان ده حرامي وبسرق أموال الناس.. وتتكلم في بعض ناس الحكومة يقول ليك ديل حرامية (لكن لو جو غيرهم بسرقوا أكتر منهم).. الشكية لي الله.. لا قيم ولا أخلاق ولا دين يحاكمهم.. إذا سرق المسكين الما لاقي لقمة العيش يحاكم وفق القانون، أما إذا سرق أهل الطاعة والولاء يقولوا ليك (الزول ده مش معانا.. دي غلطة بسيطة.. لي قدام بتصلح)، إذا داير تتوظف في الحكومة وما عندك (واو) ما بتتوظف والواو المقصودة (واو = واسطة).. أجيال كثيرة تربت على هذا مؤخراً مما يدمر الشعوب ويدك حصونها، والأجيال دي حتشيب على المفاهيم دي، فهل نقول على الدنيا السلام أم نغير ما بي أنفسنا ومن حولنا .
* يواصل حاتم في رسالته: يا شباب: السوداني يعرف بأخلاقه (زمااااااااان)، الكلام دا ممكن تشوفوا بره السودان وما طوالي، أما الآن بقى ما في فرق بين السوداني وغيره من الجنسيات.. فقدنا ما يميزنا كشعب أصيل وفقدنا الاحترام بيننا قبل الآخرين.. نعم، الكلام ليس على مجال التعميم، فما زالت الفرصة موجودة والعشم أكبر في أن نغير ونعيد للشخصية السودانية هيبتها.. و(نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا) .
* تلك كانت رسالة حاتم المعبرة التي لا تنفصل عن إحساس الشباب العام بالقهر، فالصورة المقلوبة تزداد سواداً على سواد، وهناك من لا يزال يعشم في المتاجرة بإسطوانة (حماية حقوق المواطنين ومحاربة الفساد) .
* بعد هدوء عاصفة الحرب على الفساد التي ما كانت إلا (فورة لبن)، نأمل ألا يأتي من يحدثنا في خطابه الانتخابي عن اجتثاثه لجذور الفساد، فالمسرحية أُعيد عرضها بكل فصولها والقصة تكشفت، وحتى آلية محاربة الفساد نفسها تبخرت.!!
* نحن في حاجة ماسة لتغييرات جذرية وإصلاحات جوهرية (ورحم الله المجتمع وعالم السياسة والساحة الفنية والاقتصادية).!!
* تغييرات مجتمعية خطيرة تحدث بالبلاد والصحافة مطالبة بـ(التستر) على الجرائم وعدم نشرها أو إبرازها حماية لـ(الجناة) لا (المجتمع).. ومنظمات المجتمع المدني (غائبة) .. والأسر تنهار من الداخل حتى أضحت الرقابة معدومة والقصة (سائبة).!!
* ونحن على أبواب الانتخابات: فلا خوف علينا من الفساد، فقد تعودنا عليه وتعايشنا معه و(الحال ماشي تمام)، ولكن الخوف كل الخوف من (صُنّاع الشعارات ومروجي أفيون الكلام) والداعين لمحاربة الفساد و(لسه التقيل جاي قدام) .!!
نفس أخير..
ولنردد خلف الراحل محجوب شريف :
(حليله بيسرق سفنجه وملايه
وغيرك بيسرق خروف السمايه
في واحد تصدق بيسرق ولاية).!!
[/JUSTIFY]ضد التيار – صحيفة اليوم التالي