لكنك لم تأتِ.. ولم تذهبْ!!

[JUSTIFY]
لكنك لم تأتِ.. ولم تذهبْ!!

«أ»
تتضاءل النفس كما وردة ذابلة ملقاة على الطريق، وتقهر الروح ذاتها، إن وجد الإنسان نفسه في مقام علي بفضل من الله ونعمة.. ولو كانت النفوس تعلم مقدارها.. لما شعر إنسان بخيلاء وكبر ونفخ خياشيمه وصعَّر خده وتاه في بيد من سراب.
يومها.. عند إعلان نتائج انتخابات الصحافيين السودانيين في التاسع من سبتمبر الماضي، وعقارب الساعة تقاربت من منتصف اليل، مرت أطياف أمامي كرهو السحاب.
كأن الحياة تخلع برقعها، لتعيد البراءة والطفولة الأولى وتضحك علينا وتتسامر بنا، ولظلام الليل معنى.. تذكرت في تلك اللحظة صورة غائرة في الذاكرة ولم تفلت من لجام الزمن.
وهناك من ينفض غبار نعليه فوق رقاب النجوم المتسكعة في الفضاء الأرجواني البعيد، والغيوم تمضي وتمشي مجنحة ترش على وجوه النائمين ذرات تساقطن من شهاب.
وكان هناك ثمة من يرقع ثقوب الأيام من أن تنسى أمسها.. وتتكئ على عودة مجوف من أمنيات تساقين من دنان وأقداح من عذاب.
تذكرت في تلك اللحظة والنفس تتضاءل إلى الأرض في دار الصحافيين بالخرطوم، والطيوف تمر أمامي، تلك اللحظة التي مشيت فيها خطوات مضطربات ومرتعشات في يوليو 1973م من منزلنا الحكومي الكائن غربي مدينة زالنجي، لأدلف من باب صغير مهمل وخامل الذكر بمدرسة زالنجي الابتدائية ذات الرأسين، في أول خطوات لي في مسيرة التعليم تلميذاً بالصف الأول في المدرسة العريقة.
لم تكن الدنيا يومئذٍ إلا بحجم الأحلام الصغيرة والأماني المتناهيات في الصغر، ولا تراها بوضوح الأعين المتكاسلات من رؤية الأفق البعيد.. أول يوم في المدرسة، لم نخط حرفاً ولا نعرف قرطاساً وقلماً… مجموعة من الأطفال التلاميذ والتلميذات تجاوز عددنا الستين.. لم تذهب عن بعض العين بقايا دموع سالت من البيوت وانطفأ وجهها في باب المدرسة، ولم نكن نعرف رياض الأطفال في تلك الأيام في ذياك الركن القصي من بلادنا.
«ب»
أفزعنا قرع الجرس العالي الضخم وهو يشبه أجراس الكنائس الضخمة، أمسكه بقوة وقرعه عمو عبد الهادي علي فراش المدرسة، ودهشنا لاصطفاف طلاب الفصول المتقدمة في طابور الصباح، ثم ظهر الأساتذة على مسطبة عالية عليها سارية للعلم تتصدر مباني المدرسة وتتوسطها، في مقدمتهم الأستاذ التيجاني محمد الأمين ناظر المدرسة يومها ووكيلها أستاذ بابكر، وصف طويل من المعلمين، بينهم المهيب الأستاذ السناري حسب الرسول، وشباب المعلمين «يحيى يونس، نصر الدين تمبور، حامد محمد سليمان، محمد عبد الرحمن بشارة، عبد العزيز الدومة، محمد فضل الله إدريس مستري، وضو البيت محمد ضو البيت ــ أبو الضو».
كان مشهداً مهيباً.. ونحن نقف بكل الخوف والرهبة والارتعاب.. في صفين عند الجانب الغربي من الطابور، وهذه الصورة محفورة في الذاكرة لن تمحى، يقف عند الصف الأول الأقل طولاً والبنات من زميلاتنا التلميذات ومنهم كما أتذكرهم كأنه كان بالأمس «حمدي أحمد حميدان، إبراهيم محمد أحمد كاردي، إبراهيم عبيد حسن، الصادق إبراهيم الرزيقي، عبد الرحمن حامد محمد، عفاف مختار، نون محمد أحمد بنجوس، نورا الدومة، سارة محمد أحمد النور، إحسان علي حامد أبو الحميرا، أسماء السيد مدني» وفي الصف الثاني من الطابور للفصل الأول وقف «عوض حسن الخواض، حمودة يوسف حمودة، محمد أحمد القوني، علي محمد عيسى، النذير إسماعيل بشير، عارف علي سعيد تكنة، أبو بكر الشريف، وجعفر سيسي محمد أتيم».
كانت التلميذات الصغيرات طائشات الضفائر، تعابث الريح شرائط خضراء وبيضاء مشطت مع ضفائرهن، زيهن الأنيق فساتين خضراء بجيوب عليها شريط أبيض، وجزم من الكاوتش والقماش من شركة باتا بيضاء تلمع مع جوارب جديدة في أرجلهن الصغيرة، وعيونهن كأعين العصافير شاردات خائفات لا تعرف لبصرهن حدود في شروق ذاك اليوم الخريفي اللطيف.
أما نحن فقد ارتدى بعضنا أردية من الكاكي بقمصان بيضاء، أو جلابيب جديدة، وأحذية جلدية اشترتها لنا عائلاتنا من متجر أحمد عبد الحفيظ من أجود الصناعات الإنجليزية، وبعضها أدخل قدمه في حذاء قماشي أزرق اللون «كبك» وقد أحكم رباطه الناصع البياض.
«ت»
كل شيء كان منسقاً مرتباً منظماً نظاماً، قبيل بدء العام الدراسي تمت صيانة المدرسة، وتلامعت جدرانها الخارجية باللون الأبيض النقي، وبدا سقفها المخروطي أشبه بمنزلق الأحلام التائهة لنا في يومنا الأول، المدرسة كانت مسورة ومحاطة بسور من شجر «الإنجل» المجلوب من أمريكا اللاتينية من عهد الاستعمار، في مدخل المدرسة عند بابها من الداخل، مكان بارز جلست عليه «الحاجة زهراء الشريفية أم البتول» التي تبيع للتلاميذ شطائر الإفطار وهي من الفول الطعمية والسلطة والبيض المسلوق وسلطة الأسود، وهي امرأة ذات هيبة وحضور عجيب وذات شهرة في حنوها وطيبة قلبها وصرامتها في ذات الوقت، وأحياناً يمر عليها زوجها «إبراهيم درب الشرا» على ظهر حماره الريفاوي، جالباً لها بعض الأشياء التي تكون قد نسيتها في البيت.. وكانت توزع الإفطار مجاناً لعدد من تلاميذ من نسي منهم مصروفه أو كان فقيراً معدماً.
وكان هناك سقاء «خراجي» يحمل الماء على ظهر حماره للمدرسة «عمك أحمد أبو حسين»، ونتذكر كيف فزع حماره ودلق كل الماء أثناء تحليق طائرة عمودية هيلكوبتر كان يقودها أحد أبناء زالنجي وأمهر الطيارين في سلاح الجو عبد الوهاب جباي، وكان في رحلة مقدمة قبل زيارة الرئيس الأسبق جعفر نميري لزالنجي، وزعم في تلك الزيارة أنه زار منطقة جبال كونجو الشهيرة التي تحاك حولها أساطير وأقوال عن الفقرا والسحرة الذين يسكنونها.
«ث»
تحرك طابور المدرسة بعد إجراءات طويلة وأناشيد ومراجعة الأسماء ومعرفة الغياب وتفتيش التلاميذ بدقة واتقان، وحرص من قبل مرشدي الفصول من المعلمين، عوقب ووبخ الذي لم يحلق شعر رأسه أو لم يقلم أظافر يديه أو جاء بملابس متسخة أو لا تليق أو ظهر عليه أي مظهر معيب، في تتابع ومشية بخطوات مضطربات، تحركنا في صف طويل إلى الفصل الأول ابتدائي ويقبع في الركن الجنوبي الغربي للمدرسة، شاهدنا لأول مرة السبورة الضخمة، وعلقت داخل الفصل رسومات ولوحات عبارة عن وسائل تعليمية للحساب والحروف وصور حيوانات وعلامات مختلفة.
الفصل مثل بقية مباني المدرسة مشيد من الطوب والحجارة وبني على طراز قديم، فالمدرسة شيدت في ثلاثينيات القرن الماضي، من الداخل في السقف هيكل خشبي من فوقه السقف من الزنك على شكل مخروطي، الأبواب والشبابيك من خشب مطلي باللون الأخضر، بهت اللون مع الزمن، الطاولات والأدراج والكنبات أمامنا رصت ونظمت بعناية، كل واحدة تسع ستة تلاميذ.
دخل علينا الأستاذ الكبير السناري حسب الرسول بقامته المديدة وصوته الجهور، وكان يعرفنا من أسمائنا لمعرفته بآبائنا، وجههنا في عملية إجلاس متقنة.. القصار القامة والصغار الحجم في الأمام، والأكبر سناً في المقاعد والطاولات والأدراج الخلفية.. والبنات على الجانب الأيمن من الفصل في الأمام، وأصدر تعليماته الصارمة بعدم الإزعاج والهرجلة، وكان يرتدي بنطالاً بني اللون غامق، وقميصاً أبيض بأكمام طويلة، ظهر من جيب بنطاله الأيمن جزء من منديل مخطط، لديه نظارة شمسية سوداء نزعها عن وجهه، وفي جيب القميص قلمان أزرق وأحمر، وقال لنا: «ستصرف لكم الكتب غداً».. ثم دخل معلم آخر خلفه هو الأستاذ يحيى يونس يحمل معه آلة موسيقية «أكورديون».. ولا أعرف كيف أصف البهجة والفرحة التي غمرتنا إلى حد الجنون .. لهذا المشهد .. كان كل الفصل ومن فيه كان يحلق بجناحين في أعلى السماء.
قال لنا أستاذ السناري.. «أستاذ يحيى يريدكم أن ترددوا معه نشيد العلم»، كان الذين في الصف الأخير هم الأعلى صوتاً، وقد أبدوا براعة متناهية في إسماع موهبتهم الغضة الفطيرة.. ولاذت زميلاتنا التلميذات بصمت مطبق نتيجة الحياء المذهل والخوف الذي اعتراهن.. كانت أجسادهن الهزيلة الدقيقة تتراجف كما العصفور بلله القطر.
انقضى اليوم الأول سريعاً … وكانت تلك أولى اللحظات على طريق التعلم والمعرفة، وهي لحظات طبعت في الذاكرة ونقشت على أحجارها لا تنسى مهمها تطاولت الأيام والسنون.
تذكرت كل ذلك.. وعرفت أن لحظة اختياري لقيادة اتحاد الصحافيين، لم تكن إلا بفضل ذلك اليوم.. ولولا تلك المدرسة وأولئك المعلمين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. لما صرت إلى ما أنا عليه.. وذلك الفضل من الله.. ومن معلمي في زالنجي الابتدائية ذات الرأسين التي منها انطلقت في درب الحياة الطويل!!
[/JUSTIFY]

أما قبل – الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version