اكتب هذه المقالة على ساحل البحر الميت، حيث تحف به من تلقائنا الكثير من الحياة، بينما تحده على الجانب الآخر تلال جرداء لا تكاد تلحظ فوق سطحها حياة. في المساء تجذبك أنوار تتلألأ من ذلك الجانب يؤكد العارفون انها أضواء بيت المقدس. هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، كما ذكرتنا لافتة في طريقنا من المطار خيرتنا في الذهاب الى مغطس التعميد. ثم لم يلبث بعضهم أن نفلنا تذكرة شعيب لرهطه: «وما قوم لوط منكم ببعيد.» فهذه أيضاً نواحي سدوم وعمورة. هنا تجلى غضب السماء كما تنزلت بركاتها. هنا، بحسب تعبير نزار قباني، أقصر الدروب بين الأرض والسماء، نعمة لمن تعرض لبركاتها، ونقمة لمن استحق العقوبة، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
كنا قد قضينا سحابة يومنا المنقضي في مداولات حول الطائفية التي قبحها المولى جل وعلا، وجعلها نظير الشرك في قوله تعالى: «ولا تكونوا من المشركين. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون.» كانت هناك تساؤلات متعمقة، وحائرة، ومتألمة حول التشرذم الدامي الذي نكب ربوعنا مثل طاعون الإيبولا، سوى أن من ابتلي به فرح بما عنده من الباطل، أعمى عما عند غيره من الحق، مسرع إلى الشر، مبطىء عن الخير. فما ذا يا ترى دهى الناس؟
لم استفق من صدمة افتتاح يومي بسماع إعلان اتباع أمير المؤمنين وخليفة المسلمين عن قتلهم موظف إغاثة بريطاني كانوا قد اختطفوه من مخيم لاجئين في سوريا. هل يا ترى قرأ بعض القوم قوله تعالى: «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»، أم يا ترى صدق فيهم قوله جل وعلا: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ»؟ فالرجل الذي تباهوا بقتله لم يأت ليفسد في الأرض، بل بالعكس، أحيا أنفساً كثيرة بتقديم العون لمن تقطعت بهم السبل. وكان الأولى أن يقوم بذلك هؤلاء الذين تنطقوا بشرائط الذخيرة المشتراة من بلاد الكفر، وطفقوا يفرضون الأتاوات على المعدمين لتمويل جهادهم الذي هو في أكثره جهاد ضد المصلحين. فليس قتل الأبرياء على الهوية من عمل المؤمنين، وإنما هو شأن الجاهلية الأولى في أيام داحس والغبراء، لأنه نقيض ما جاء في صحيح الوحي من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
أجلس هنا، متأملاً على امتداد البصر هذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين». أعالج من جانب الحيرة من هذه الانزلاقات نحو الباطل، اتباعاً لخطوات الشيطان، تحت راية كتب عليها لا إلا الله، وأتوجس، من جهة أخرى، من احتمالات تنزل العقوبات على الظالمين، خاصة ونحن على مقربة من المؤتفكات التي جاء أهلها بالخاطئة. وكم من مؤتفكات تتزاحم اليوم على التكاثر من الإثم. فعندما يفترى على الله كل هذا الافتراء، وينسب إليه تعالى عما يقولون علواً كبيراً- الإذن بخطف وقتل الأبرياء، بل والأمر بذلك، من أجل الابتزاز الرخيص، فيحق على العاقل أن لا يسير في نواحي الأرض إلا وهو في حالة خوف، فإنه لا يأمن بأس الله ومكره إلا القوم الخاسرون.
أتأمل الضفة المقابلة وأنا أستحضر أن في كثير من نواحيها قوما يطيلون اللحى والذوائب، ويعكفون على أسفار يزعمون أن الله تعالى وعدهم فيها تلك الأرض، وأباح لهم تشريد أهلها، ونهب ما تركوه من متاع وأرض ومساكن، وتقتيل من قاوم. ويرون في هذا غاية القربى إلى الله تعالى. فالتنافس هنا ليس بين «دواعش» المسلمين، من سنة وشيعة، بل هناك كذلك دواعش بني إسرائيل وقريباً بني سام. الكل يتقرب إلى خالقه جل وعلا بترويع الأبرياء الآمنين وتقتيلهم. فما الذي يزين للظالمين سوء عملهم فيرونه حسناً؟
كنت قد مررت في الأسبوع الذي سبق بسراييفو، عاصمة جمهورية البوسنة. ولم تكن الطائفية والنزاعات هي شغلي، وإنما قضايا الفكر الحديث. ولكن مضيفي قرروا مشكورين أخذي في جولة تعريفية بالمدينة، كون هذه كانت اول زيارة. وسراييفو مدينة اخاذة ساحرة، سواء بموقعها المدهش وسط المرتفعات التي تحتضنها، والمزيج الفريد للمعمار العثماني والنمساوي الذي يمتلك الألباب. ولكن دليلي الى سراييفو البروفيسور منير مويتش اختار ان يبدأ من احد معالم المدينة الأشهر، النفق الذي حفر تحت المطار، وكان شريان الحياة للمدينة خلال الحرب التي استمرت ست سنوات.
شاركنا عشرات الزوار في المشي داخل جزء من النفق قبل ان نجلس لمشاهدة فيلم وثائقي يصور واقع المدينة اثناء الحصار الذي دام قرابة أربع سنوات، والدور الذي لعبه النفق في تخفيف الحصار. وأثناء خروجنا اخبرني منير بانه حاول خلال الحصار الدخول عبر هذا النفق الى المدينة، ولكنه منع وأعيد ست مرات من قبل القوات الدولية. اثناء جولتنا الممتعة عموما، كانت ذكريات الحرب تفرض نفسها عند كل منحنى: مقبرة الشهداء التي تمتد مد البصر من سفح تل في قلب المدينة، وقفتنا القصيرة عند متحف علي عزت بيغوفيتش، الزعيم الذي قاد البوسنة الى الاستقلال، واجتهد في حمايتها من الاندثار تحت وطأة هجمة صربية كرواتية مزدوجة اجتهدت في تمزيق الدولة الوليدة المحاصرة تمهيدا لابتلاعها.
قبل بضع سنوات، كنت على الجانب الآخر من ذلك الحاجز، في بلغراد، عاصمة صربيا، وهي أيضاً مدينة لها سحرها وتاريخها. ولا أستطيع أن أقول إنني اطلعت على وجهة النظر المبررة للهجمة على سراييفو، لأن مضيفينا في بلغراد كانوا من الصرب «المعتدلين» المناهضين لذلك العدوان. ولكن كان هناك مع ذلك إصرار على أخذنا لزيارة كاتدرائية ضخمة في قلب بلغراد كانت في طور ترميم وإعادة بناء، ولم يكن الأمر يحتاج لطويل وقت لكي تلمس ذلك المزيج الملتهب بين الديني والقومي والسياسي في لب الهوية الصربية. وفي وقت لاحق، توقفنا ونحن نتجول في قلب صربيا عند دير يقع فوق قمة جبل مرتفع، كان بدوره مزاراً. وقد أسهب مضيفنا وهو يتحدث عن دور الدير في تاريخ صربيا، ولم يكن صعباً أن تدرك كيف يتماهى هذا الشخص الحداثي المعتدل مع ذلك التاريخ الملتبس والملتهب.
ولعلها مفارقة ذات مغزى أننا توقفنا في سراييفو عند تلك النقطة التاريخية التي شهدت حادث اغتيال ولي عهد النمسا على يد الناشط الراديكالي الصربي «برنزيب»، وهو الحدث الذي أشعل الحرب العالمية الأولى وأعاد صياغة العالم سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. ولعل المفارقة هي أن سراييفو تحتفل بهدوء بهذا الحادث وبطله. فهناك متحف مقام باسمه أمام الجسر اللاتيني (الذي سمي جسر برنسيب في يوغسلافيا الشيوعية) حيث نحتت آثار أقدامه حيث وقف حين أطلق الرصاص. وفي حزيران/يونيو الماضي، كانت سراييفو محور احتفالات عالمية تخليداً لمرور مائة عام على الحدث الذي فجر الحرب.
عندما تنقض فئة من الناس على جيرانها (وهم في غالب الأمر جيران) تقتيلاً وفتكاً فإنها غالباً تكون كمن به مس من الشيطان. وغالباً ما يطول الأمر قبل أن يستيقظ من غيبوبته فيجد عالمه أشلاء من حوله، ولات ساعة مندم.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]