رغم أنني زرت لندن مرات عديدة وجيبي مليان، فإن زيارتها للمرة الأولى، وجيبي تعبان ما زالت في ذاكرتي بكل تفاصيلها، لأنني كنت «سِنقِل»، اي أعزب، ولا تجعل بالك يودي ويجيب بحكاية «أعزب» هذه، فتحسب أن الأمر يتعلق بممارسات عزوبية جنوحية انحرافية، ولا تصدق أكاذيب من يزعمون أن بنات بريطانيا، كلما رأين شخصا أسمر أو أسود البشرة يتسابقن لاختطافه والاستفراد به، فحتى بياض البشرة لن يضمن لك إعجاب الحسناوات بك، وخلاصة القول هي أن الزعم بأن بنات الخواجات ع الهبشة، وسهلات الاصطياد لا يصدر إلا عن «جخاخ» وهذه كلمة سودانية بليغة تطلق على الشخص الذي يكذب بقصد التباهي، وهناك بالطبع من يذهبون إلى لندن وباريس وامستردام لاصطياد النساء وينجحون في ذلك، ولكن هذا النجاح لا يعزى لجاذبيتهم أو وسامتهم أو عمق ثقافتهم بل لأن «جيوبهم ثقيلة»، وبداهة لا يحق لمن يشتري المتعة التباهي بـ«قدراته»، بل أقولها صراحة إنني أحتقر الرجل الذي يتباهى بفوزه وزواجه من حسناء ولا يكف عن التحدث عن مفاتن زوجته، أما الرجل الذي يسقط من عيني تماما فهو الذي يجعل من علاقة الفراش مع زوجته مادة للونسة والهزل مع أصدقائه.
المهم: لأنني كنت سِنْقِل اي أعزب فقد تسنى لي رؤية كل شيء يستحق الرؤية في لندن، وهكذا زرت جميع متاحفها، وقاعات الفنون، وكنت أزور المتحف البريطاني مرة في كل شهر تقريبا، وكشخص درس معظم المراحل التعليمية في عصر ديمقراطي إلى حد كبير، ولم يكن كثير من المتعلمين فيه يقيمون وزنا لانتماءاتهم القبلية والجهوية، فقد دخلت الحياة العملية وما زلت وأنا أحس بالانتماء الصادق لكامل السودان، ولك أن تتخيل مدى غضبي عندما قررت حكومتنا اللحاق بالقرن العشرين في عام 2011، وطرحت ما يعرف بالرقم الوطني وجواز السفر الالكتروني، وقضيت مدة كانت تكفي لأداء العمرة سفرا بالقطار والبحر، في صفوف طالبي ذلك الجواز، وعندما جاء دوري سألني عن قبيلتي، فحسبت أنه «يهزر» وقلت له «دينكا» وهي قبيلة في جنوب السودان، ولكن رده أثار عجبي: يا أستاذ نحن مضغوطين وما عندنا وقت للهزار. فسألته: أنت جاد في هذا السؤال فجاء الرد بالإيجاب، صحت وخلفي نحو مائتي شخص: يا جماعة معقول ونحن في القرن الحادي والعشرين، جهة حكومية تسجل المواطنين حسب قبائلهم؟ فأبدى كثيرون استنكارهم للأمر ولكن الموظف قال لي بهدوء: دي التعليمات من وزارة الداخلية، فقلت له بكل جدية وصدق: ما عندي قبيلة، فصاح شخص يقف في الطابور نيابة عني مخاطبا الموطف: يا ابن العم خلِّصنا، قبيلته «نوبي محسي»، فنظر إليّ الموظف فأومأت بالموافقة، وأنا في منتهى الضيق، نعم أنا نوبي محسي، ولكن المواطنة هي الأهم.
ومع هذا فقد كنت أذهب الى المتحف البريطاني لأتوقف عند حضارة أسلافي النوبيين، وأنا أحس بالزهو تارة لأن قسم الآثار النوبية في المتحف ضخم، وبالحزن لأن البريطانيين سرقوا تاريخنا وآثارنا ولم تطالب الحكومات السودانية المتعاقبة باستردادها كما فعلت دول أخرى. يا جماعة اليونان خاضت معارك قضائية مع بريطانيا على مدى ربع قرن حتى استردت منحوتات البارثينون Elgin Marbles ومعظم تاريخنا في متاحف وجامعات بريطانيا، بينما متحفنا اليتيم «تحفة» بمعنى أنه متهالك بسبب بؤس مخصصاته، ورداءة أساليب عرض المقتنيات التاريخية فيه مما يعرضها للتلف، وكنت وما زلت كلما زرت لندن أزور متحف مدام توسو (الشمع) ليس لالتقاط صور مع نيلسون مانديلا أو جيفارا بل أجد متعة شديدة في الجلوس في القبة السماوية لأشاهد العرض المبهر للنجوم والكواكب والمجرات، وأحس بأنني في مركبة فضائية.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]