:: أجمل ما في بلادنا معدنك الذي لم – ولن – تغيره المحن .. أحدهم يحكي، إختار صديقي مقعداً بجوار السائق في المركبة العامة، وكان صوت المطربة يملأ المكان، و صعد أحد معارف صديقي إلى المركبة، ولم يلتق به منذ زمن بعيد، وبعد السلام جلس بجواره قائلاً : ( جيت الأسبوع الفات، جابتني وفاة الوالدة)، وتبادلا التعازي و(الفاتحة)..فانتبه السائق، وشاركهم في العزاء، واستبدل غناء المطربة بتلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ثم صاح مٌنبها الكمساري : ( الزول الجنبي دا حسابو خالص)..فالسائق لايعرفهما، ولكن هكذا السودان، أجمل ما فيه أنت أيها السوداني ..!!
:: وقبل أسبوع ونيف، عند العاشرة مساء، من مطار الخرطوم، أقلعت إحدى رحلات شركة تاركو للطيران إلى مطار القاهرة ..الرحلة رقم (112)، قائدها الكابتن محمد التلب ومساعده الكابتن محمد عثمان وطاقم الضيافة.. وكان من ركاب الطائرة، عم مصطفى وزوجته وإبنتهما، من أهالي حي الشجرة بجنوب الخرطوم، ويقصدون القاهرة بحثاً عن العلاج، فالعم مصطفى مريض.. بعد ساعة من إقلاع الطائرة وتحليقها، تنتكس الحالة الصحية لعم مصطفى لتصرخ زوجته وتبكي إبنته.. ويسأل طاقم الضيافة ركاب الطائرة إن كان بينهم طبيباً، وكان فيهم الطبيب .. ولكن حين قصد الطبيب مقعد العم مصطفى وجده ( فارق الحياة)، والطائرة في منتصف المسافة ما بين الخرطوم والقاهرة..!!
:: لقد تصرف الطبيب وطاقم الضيافة بحكمة، لم يعلنوا للركاب و لزوجة المرحوم مصطفى وابنته ( نبأ وفاته)، بل خصوا قائد الطائرة وكابتنه بالنبأ الأليم .. تشاور الكابتن التلب مع مساعده قليلاً، ومع إدارة الشركة بالخرطوم، ثم أطلق النداء للركاب معتذراً : ( عذراً، معنا راكب حالته الصحية تستدعي العودة إلى الخرطوم)، ثم أخطر سلطات مطار القاهرة بما حدث لأنه كان قد بدأ التواصل المهني معهم.. ثم عاد بالطائرة – بعد ساعة تحليق – إلى مطار الخرطوم، وبعد انزال جثمان المرحوم مصطفى برفقة زوجته وابنته وبعض كوادر الشركة، أقلع الكابتن التلب بالطائرة قاصدا (رحلته المعتادة).. ساعة ذهاباً ثم ساعة إياباً ثم ساعتين وربع الساعة ذهاباً هي مسافة وتكاليف الرحلة رقم (112)، لطائرة شركة تاركو في تلك الليلة ..وتحملت هذه الشركة الوطنية كل هذا الزمن والمال لكي لاترهق زوجة المرحوم وابنته ( معنوياً ومادياً)..!!
:: لو واصلت الطائرة رحلتها وهبطت – بالمرحوم وأسرته – في مطار القاهرة، لكانت بداية الأعباء – على كاهل الزوجة وابنتها – إجراءات استلام الجثمان بمطار القاهرة ثم تحويله إلى مشرحة باحد مشافى القاهرة ثم إجراءات الحجز ل (صندوق الجثمان)، ولكل هذه الإجراءات تكاليف تتجاوز (5000 دولار)، هذا غير الآثار المعنوية لزوجة مكلومة وابنة مفجوعة في ديار الغربة.. هكذا كانت قيم الانساية ومكارم أخلاق أهل السودان هي التي تقود الطائرة في لحظة خروج روح العم مصطفى، وبالإتكاءة على هذه القيم والمكارم الراسخة في مجتمعنا اتخذ الكابتن تلب والكابتن عثمان وشركتهما ( القرار الانساني)، لتعود الطائرة بالأسرة وجثمان فقيدها.. واستجابة لطلب إدارة تاركو و قائد رحلتها، لم اكتب تكاليف وقود الرحلة، ولا تكاليف رسوم الإقلاع والهبوط .. وهكذا السودان دائماً، فالمعدن الأصيل فيه – وهو أنت ومجتمعك – لا تزده المحن إلا ..( بريقاً ولمعاناً )..!!
[/JUSTIFY]
الطاهر ساتي
إليكم – صحيفة السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]