تعامل أهلي وأصدقائي مع ابتعاثي للدارسة في بريطانيا على نحو غير لائق!! نعم أقاموا لي الحفلات والولائم وكتبوا القصائد، فلم يكن يذهب إلى بريطانيا سوداني بحرِّ ماله ما لم يكن رجل أعمال يعاني من علة خطيرة، أو وزير خارجية، أو مبعوثا لدراسات عليا، وكان خريجو الجامعة الحكومية الوحيدة (الخرطوم) وفي جميع التخصصات – بما في ذلك الشريعة الإسلامية – يذهبون إلى الجامعات البريطانية لنيل الدرجات فوق الجامعية (الاستثناء كان خريجو كلية الزراعة فقد كانوا يوفدون إلى جامعات كاليفورنيا، ويوما ما كان الزراعيون السودانيون أكثر المهنيين السودانيين حصولا على درجتي الماجستير والدكتوراه، بل كان حاملو الدبلوم من «معهد شمبات الزراعي» يوفدون إلى جامعة الاسكندرية لنيل البكالريوس، فهكذا كان اهتمام حكوماتنا السابقة بالتنمية البشرية)، وقلت إن جماعتي احتفلوا بي على نحو غير لائق لأنهم انفقوا مبالغ ضخمة على الولائم والحفلات، ولو أعطوني ربع تلك المبالغ لنجحت في إتمام مراسيم زواجي قبل التوجه إلى لندن، وكنت وقتها قد عقدت قراني شرعا على من اخترتها زوجة، ولكن العادات السودانية لا تعترف بعقد الزواج ولا بتوقيع المأذون على وثيقة الزواج، يعني مفيش زواج إذا لم تقم كذا حفل وتخضع لمراسيم بعضها وثني مثل ذاك المسمى «جرتق»، وهو مأخوذ عن الديانات النوبية القديمة، مثله مثل السير بالعروس والعريس في زفة إلى النيل ليغسلا وجهيهما بمائه طلبا للذرية باعتبار النيل مصدر الخصوبة للبقر والبشر والتتر في الديانات النوبية والفرعونية.
وأينما ذهبت وجدت من يستوقفني ويصيح: مبروك يا بطل.. ماشي لنضن (هكذا ننطق اسم العاصمة البريطانية في السودان، بينما كان النوبيون العاملون في مصر يسمونها لندرة، وإلى يومنا هذا ينطقها الشوام بضمة على اللام فتكاد تكون لوندون)، وحدث كل هذا رغم أنني لم أنشر الخبر في صفحتي في أي «بوك» سواءً كان «فيس»، أو «نوز»، ويغلب الظن عندي أن وكالة رويترز هي التي نشرت الخبر، فقد كنت أعرف مديرها الراحل محمد ميرغني بحكم مجاورة بيته لبيت عمتي شريفة كمبال في حي الدناقلة جنوب في الخرطوم بحري، وكان منزل عمتي شريفة وزوجها يعقوب صالح رحمهما الله رحمة واسعة، بمثابة «المحطة الوسطى» لكل أهل منطقتنا المقيمين في بحري، ومنهم من دخل ذلك البيت صبيا ثم أكمل تعليمه وحصل على وظيفة، وظل مقيما فيه، ولم يرحل عنه إلا بعد الزواج، يا حليل تلك الايام عندما كانت بيوت اهل المدن حضنا للأقارب القادمين من الأرياف طلبا للعلم او العلاج او العمل، وكانت اللقمة الهنية تكفي ميّه (100).
وتجاوزت بعض العراقيل واستكملت اجراءات السفر، ولكن من جانبي لم تكن هناك أي استعدادات للسفر، بمعنى أنني لم أكن مطالبا بأي ترتيبات شخصية تسبق السفر، فلا شنطة أجمع فيها ملابس السفر، ولا كالعادة أمي تجهز لي زادا/ طعاما أتناوله خلال الرحلة، فقد قررت أن احمل معي قميصين وبنطلونين في هاند باق، وحذاء واحدا هو الذي سيكون على قدمي خلال الرحلة، فلا يجوز أن ارتدي في لندن ثيابا معظمها من سوق «سعد قشرة» وكان هذا السوق وقتها أكثر بؤسا من حاله الراهن. وهكذا قمت بتخزين ملابسي التي كنت استخدمها كمدرس لـ«ساعة عوزة»، وقررت أن أسافر «خفيفا» لأنني كنت واثقا من أنني سأعود من لندن مثقلا بالملابس «الماركات»، وهذه كلمة صارت تستخدم بصيغ لا تخلو من «بلاهة» الشنطة/ البلوزة/ الحذاء «ماركة»، ويقصدون بذلك أنها من صنع جهة ذات اسم رنان في السوق، مع أن اي شيء مصنوع في الأرجنتين أو الصومال أو ليبيريا بالضرورة «ماركة» لأن الماركة هي العلامة المميزة لأي سلعة، يعني حتى الهواتف الصينية التي تصاب بالبكم والخرس بعد استخدامها لنصف يوم أيضا!
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]