جاء عليّ الانتقال الى مدرسة الخرطوم بحري الثانوية بنين بالخير والبركة، فمن الناحية المعنوية كنت أحس بأنني بين أهلي وعشيرتي لأن «بحري» كانت المدينة المفضلة لأهلي المهاجرين من بلاد النوبة (كما أوضحت مرارا في مقالاتي فإن النوبيين يعشقون «الأرض» ومن ثم فإنهم كان أول من ابتدع السكن العشوائي في أطراف العاصمة السودانية، وتسللوا أولا إلى ضاحية العزوزاب والدباسين في الخرطوم ثم «الحاج يوسف» والدروشاب في بحري، ثم الكلاكلة في الخرطوم)، وكنت أعرف الكثير من طلاب المدرسة معرفة «عائلية»، ثم عرفت معظم طلابها لأنهم «ملحلحين»، وكان من عادة المدرسين الجلوس خارج مكاتبهم تحت ظل أشجار قريبة من ميدان الكرة الطائرة، وكنت تجد عددا من الطلاب يجلسون مع المدرسين يتونسون أو يطرحون عليهم أسئلة حول الدروس أو الأنشطة المختلفة.
ومن الناحية المادية صار لي دخل إضافي من التدريس في الفصول التي يديرها اتحاد المعلمين في الأمسيات، مستغلا مباني المدارس الحكومية النهارية، ولأربع سنوات متتالية لم يكن هناك طالب أو طالبة يجلس لامتحان الشهادة في تلك المدينة أفلت مني، وقد أصبت بـ «سَعَر» الفلوس بعد أن اخترت فتاة وعرضت عليها الزواج، وكانت مدخراتي وقتها صفرا، فكان لابد من زيادة دخلي الشهري بالعمل الاضافي، وكانت فصول اتحاد المعلمين مختلطة، وبالتالي كان التهذيب وحسن السلوك سمة طلابها وطالباتها، فالبنت أصلا تنشأ وهو تعرف جيدا ضوابط السلوك القويم والتهذيب، ولم يكن شباب ذلك الزمان أقل تهذيبا منهن، ولكن حتى النوع «الشرامي» من الطلاب (والشرامي كلمة فبركها السودانيون لوصف الشخص المكحل بالشطة ويتميز بالعفرتة والشيطنة) كان حريصا على حسن السلوك، لأن المدارس لم تكن تتهاون في ردع السلوك الفالت، وكان من صلاحية إدارة اي مدرسة فصل اي طالب / طالبة نهائيا ولم يكن حتى من حق وزير التربية الاعتراض على ذلك، او استخدام حق الفيتو، لأن قرار الفصل كان يتم بالتشاور بين المدير وكبار أعضاء هيئة التدريس ومشرفي الصفوف.
وقد سبق لي العمل في مدارس بنات (غير مختلطة)، وأقول بكل اعتزاز إن تلك التجربة جعلتني أكثر تهذيبا، ولا أذكر أنني صادفت طالبة تسيء الأدب خلال الحصص الدراسية، وبالتأكيد كنت أحس بأن فلانة وعلانة «شراميات»، ولكن في حدود التهذيب، وعموما فلم أكن من صنف المدرسين الذين يعتبرون الطالب الذي يمارس الشغب المرِح، وتصدر عنه تعليقات أو أسئلة «مشاترة» اي لا علاقة لها بموضوع الدرس، «قليل أدب»، أخذا في الاعتبار أن فارق السن بيني وبين طلبتي لم يكن كبيرا، وكانت بي بقية من الروح الطلابية، وبالتالي كنت أتقبل المشاكسات وحركات الاستهبال بابتسامة أو ضحكة، وقد سبق لي أن سردت حكايتي مع طالب طلب مني الأذن بدخول حجرة الدراسة بعد بداية الحصة بنحو ربع ساعة، فرفضت، فصاح معترضا: يا زول أنت مجنون.. فقدت القدرة على الكلام وران الصمت داخل الغرفة، فواصل صاحبنا الكلام: طلعت من بيتنا خمسة صباحا وأوصلني أبي بالحمار حتى طريق الحافلات، ونزلت في ضاحية كذا وركبت حافلة أخرى ووصلت موقف الحافلات هنا في بحري، ثم قطعت المسافة سيرا على الأقدام في ربع ساعة، و«تمنعني أحضر الدرس»؟ قلت له: تفضل أدخل بس يا ويلك لو جبت كلمة «مجنون» على لسانك، وانفجرت ومعي الطلاب ضاحكين، ودارت الأيام وهاجرت، ثم نزلت في مطار الخرطوم في ذات إجازة، ووضعت حقائبي أمام موظف الجمارك، فإذا به يصيح: يا زول انت مجنون، شايل طن من الشنط؟ نعم كان هو نفس ذلك الطالب وتعانقنا واصطحبني إلى خارج المطار ودفع الأجرة للحمّال.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]