لانستطيع أن ندفن أقلامنا في الرمال وجموع الجماهير التي تنزل يوميا للأسواق لا تجد في بضاعتنا الصحفية غير بضاعة الحوار الكاسدة.. الجماهير يهزمها السوق والأسعار، ونحن في مواسم الخريف عبثا نزرع قاعات حوارنا بأحاديث طواحين الهواء.. لقد سئمت بل وكفرت بكل محفل ومؤتمر، لا نجني من ورائه كيلة فتريتة ولو واحدة.. كفرت بكل قصيدة لا تخرج بعدها مثيرة للإنتاج والحقول والزراعة لتفك أسرنا والأغلال.. ماهو حصاد السودانيين بعد إنفاق أكثر من نصف قرن من الزمان في الحقول السياسية لم تقو على إنتاج دستور دائم للبلاد.. فها نحن بعد أكثر من ستة عقود من الاستقلال نجهد خيولنا ونرهق أصواتنا وحناجرنا من أجل أن يجلس الفرقاء لإنتاج دستور.. علما بأن الدستور في سلم تعليم بناء الدول هو بمثابة (سنة أولى دولة).. فلا يعقل ونحن أمة تطرق باب الستين.. باب عمر النبوة والنضج.. بلا دستور وبلا رؤبة ولا هدى ولا كتاب منير.. فلا أرضا قطعنا ولا ظهرا أبقينا.. وكل يوم يهجر العشرات مزارعهم وحقولهم وريفهم ويلتحقون بالمدن في مهن هامشية.. لأن المنظرين والمشرعين والمخططين ينفقون كل وقتهم لرسم خرائط الطرق السياسية.. لا حوافز في الحقول الزراعية ولا أغنية ولا قصيدة ولا مسرحية تحفز الناشئة على حب الأرض والخضرة والحقول.. فنجوم الغد وأبطال المستقبل هم المطربون الذين طفقنا نذلل لهم كل آليات عزفهم وشاشات مجدهم حتى شارفت أمتنا لقب المليون مطرب.. وللذين يقرأون بتطرف أنا لست ضد الغناء، ولاينبغي لي، ولكني ضد ثقافة أن نصبح كلنا مطربين حتى يأتي علينا زمان لا يجد المطرب منا من يستمع إليه.. يا جماعة الخير ما أحوجنا لعبقري يجعل كل نزوعاتنا وأمزجتنا وأغانينا وفضائياتنا وفوضوياتنا ونخبنا ووعود انتخاباتنا ويسارنا ويميننا ووسطنا و.. و.. . كلهم في خدمة مشروع السودان الأخضر.. ثم لما تكون الويكة وزيت الفول والبنضورة في متناول يد الجميع نذهب لصناعة مشروع المليون مطرب، فعلى الأقل سنضمن أن هنالك مليون تربال.. ففي مقابل كل حامل طورية حامل كمنجة.. ومقابل كل حامل أورغن عشرة من حملة المناجل والمعاول الإنتاجية..
كلما أمعنت في قراءة المشهد الفكري والسياسي تجدد حلمي القديم الجديد.. على أن نستيقظ ذات يوم جميل على مارش ثورة سبعة شبان سمر التقاطيع والأحلام خضر الأمنيات.. ليعلنوا مباشرة أن السودان دولة زراعية لا سياسية ولا غنائية.. والإعلان عن انتخابات البرلمان الأخضر.. على أن يتنافس المرشحون في طرح البرامج الزراعية.. وتصعد كلية الزراعة لكلية الأركان والقادة الزراعيين.. ستكون هناك وزارة للقمح والقطن والذرة والسمسم والصمغ العربي..
ولازلت أعتقد أن دولة الكفاية والعدل تمر من هنا.. من فلاحة الأرض وتربية الحيوان وصناعة الكسرة والعصيدة.. فقديما قال رجل المسيد (أكان ما الكسرة ما جات الناس منكسرة).. وقال عز من قائل: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”..
غير أن معظم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الفكرية، يمكن تسويتها وتذليلها إذا ما وفرنا قوتنا وحررنا إرادتنا وتحرينا هويتنا!
[/JUSTIFY]ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي
[EMAIL]Malazat123@gmail.com[/EMAIL]